الحالة السيامية - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 9:55 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحالة السيامية

نشر فى : الخميس 15 مايو 2014 - 7:40 ص | آخر تحديث : الخميس 15 مايو 2014 - 7:44 ص

ما أشبه الحالة السيامية بالحالة المصرية، وفى الوقت نفسه ما أبعد الواحدة عن الأخرى.

فى مصر كما فى تايلاند، حدث أن تحسنت نسبيا الأحوال المعيشية لجماعات فى المجتمع. حققت قدرا مناسبا من التعليم وتعددت أمامها، نظريا على الأقل، فرص الصعود والتوظيف. بمعنى آخر، استعدت لحراك اجتماعى خاصة وقد لاحت أمامها الفرصة، فإذا بها تجد كل الطرق موصدة، وتكتشف أن الأمور فى الدولة ومؤسساتها وعند نخبها السياسية لا تسير بالسرعة التى كانت تأمل فيها. عندما خرجت هذه الجماعة أو الجماعات إلى الشارع غاضبة ومحتجة لم تكن على درجة من الفقر المدقع، ولم تكن يائسة تماما من تحسن أحوالها، وكان أغلب أعضائها من فئة الشباب.

•••

هذا التحليل يطابق، أو يكاد يتطابق مع، التحليل الذى عرضه عالم السياسة الألمانى رالف داهريندوف فى مقال له نشر عام 2005. كان يعلق فى المقال على ثورات أوروبا الشرقية ويعلل أسبابها ويشرح سلوكيات الشعب قبلها وخلالها وبعدها. وألمح إلى أنه وجد أوجه شبه مع تطورات المجتمعات الإسلامية فى ذلك الحين، وتنبأ لها بالمصير ذاته.

تحدث رالف مطولا عن ظواهر فى سلوك الشعوب فى أعقاب الثورة، وأهمها ظاهرتان أجد صداهما فى مصر واضحا، وأجد صدى واحدة منهما على الأقل فى تايلاند بنفس الوضوح. أما الظاهرتان فهما الميل إلى الهجرة من ناحية، وغرابة نماذج التصرف فى الانتخابات الديمقراطية.

وقع فى مصر مثلا، كما حدث فى أوروبا الشرقية ويحدث حتى الآن، تدفق مفاجئ للهجرة من البلاد إلى الخارج، وهو الأمر الذى لم يحدث بعد فى تايلاند، ربما لأن الأمور لم تستقر بعد وربما لأن دول الإقليم الآسيوى لم تتعود بعد على تبادل الهجرات. تفسير ما حدث فى أوروبا الشرقية ودول الثورات العربية قد يكمن فى أن من تولى إدارة البلاد فى أعقاب الثورة أو خلالها، لم يفتح أبواب العمل والرزق وفق ما كان يحلم به الشعب. يكمن أيضا فى احتمال أن يكون الحكم قد أدير بشكل أثار خوف قطاعات أو فئات بعينها، فهمت عن حق أو خطأ أنه فى النية التمييز ضدها.

•••

الظاهرة الثانية، وقد تكررت فى أوروبا الشرقية ومصر وتونس وتتكرر الآن فى تايلاند، هى المتعلقة بأنماط السلوك الاجتماعى فى أول انتخابات ديمقراطية تجرى فى معظم هذه الدول. اتضح مثلا أن الناخبين فى شرق أوروبا صوتوا لممثلى العقيدة والأحزاب التى ثاروا ضدها. وفى مصر صوتوا لشخصيات وأحزاب لم يكن متصورا منطقيا أو بأى حسابات أكاديمية أن يصوتوا لها. وفى تايلاند يصوتون لصالح الفساد!!. المهم أنه فى كل الحالات، توصل الفاشلون فى الانتخابات النزيهة نسبيا والغاضبون من نتائجها إلى نتيجة واحدة، وهى أن الانتخابات وحدها ليست الديمقراطية، والديمقراطية أكثر وأكبر من أن تقتصر على انتخابات وأن الفائزين فى الانتخابات فازوا لأنهم استجابوا لأهواء الناخبين، وهى أهواء متقلبة ولا صلة لها بالضرورة بمصالحهم ورغباتهم. بمعنى آخر، «سيعود الناخبون قريبا جدا إلى وعيهم ولكن بعد تخليهم عن الحاكم الذى جاء إلى الحكم عن طريق الصندوق».

•••

حدث أيضا فى الحالات جميعها، أنه فى أثناء ذروة الاضطرابات والاحتجاجات، انسحبت الذراع الأمنية للدولة أو تعمدت الاختفاء لفترة قصرت أو طالت. كانت النتيجة أن ضعفا شديدا أصاب مختلف مؤسسات الدولة، أصاب شرايينها وأرخى عضلاتها وفك أواصرها. ولكنه أصاب بشكل خاص مكانة المؤسسة بالنسبة لغيرها من المؤسسات ومكانتها فى المجتمع. ظهر واضحا هذا العجز فى كل من أوكرانيا ورومانيا وتونس ومصر وغيرها من دول الربيع العربى، وظهر بوضوح أيضا فى تايلاند، عندما اكتشف المهتمون بالوضع هناك، أن جميع مؤسسات الدولة اُصيبت بالضرر وأحيانا العجز ومنها مؤسسة القصر الملكى ومؤسسات الحكم المحلى والأمن الداخلى. يبرر معلقون أجانب هذا التطور بأن يأتى كنتيجة منطقية ورد فعل متراكم لتدخل المؤسسة العسكرية فى 2006. وقتها قرر قادة الجيش القيام بانقلاب عسكرى أطاح برئيس الوزراء تاكسين وهو فى الوقت نفسه واحد من أغنى رجال الأعمال فى تايلاند. المثير فى هذا التطور هو تداعياته وعواقبه. إذ إنه ما أن عادت القوات إلى ثكناتها إلا وحاولت المؤسسة القضائية الحلول محلها فى الفراغ الذى خلفته. وتولت بنفسها إدارة الحياة السياسية وصراعاتها مستخدمة أداة «الانقلابات الدستورية» كبديل أو تقليد للانقلابات العسكرية. وبالفعل وقعت ثلاثة انقلابات دستورية فى فترة وجيزة كان آخرها انقلاب هذا الأسبوع على حكومة السيدة ينجلوك شيناواترا، الرئيسة المنتخبة ديمقراطيا.

بمعنى آخر، أدت الثورة الشعبية والتنافس على تسيير دفة الحكم إلى «تسييس» مؤسسات لم يكن من مصلحة البلاد أصلا السماح لها بالتدخل فى السياسة وانتزاعها صلاحيات وامتيازات. هذا التسييس ومن بعده التكالب على منافع وصلاحيات يؤذن بدخول البلاد مرحلة صراع بين المؤسسات تعقبها مرحلة انفراط يهدد كيان ووحدة الأمة. يخشى بعض المعلقين أن تكون تايلاند مقدمة «ربيع آسيوى»، ويستندون فى خشيتهم إلى علامات تؤكد أن خللا وقع بالفعل فى التوازن بين مؤسسات الدولة. غياب هذا التوازن يعنى ببساطة شديدة أنه لن يتحقق الاستقرار السياسى والاقتصادى، ولن يقع التحول نحو الديمقراطية والرخاء الاقتصادى والسلام الاجتماعى.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي