كل منا له بضاعته. وكل منا يبذل جهدا خاصا يروج لبضاعته. حتى الحيوانات لها بضاعتها وتبذل جهدا لترويجها.. والبشر والحيوان يشتركون فى حيازة بضاعة واحدة ويبذلون جهدا كبيرا للترويج لها. بضاعتنا هى الخصوبة.
سمعت أن زعيما كبير المقام ذهب فى رحلة إلى عاصمة أوروبية فارتدى بدلة تشريف ألوانها زاعقة ووضع على عينيه نظارة شمس فاخرة ونفش شعره متمثلا بشمشون الجبار، ومن حوله انتصبت حارسات فارهات الطول سمراوات البشرة وسوداوات العيون. ومن مرآب الطائرة خرجت إلى أرض المطار ناقة تحمل فى أثدائها حليبا له فوائد شتى، ومنه أنزلوا خيمة انغرس مغزاها فى خيال الأوروبيين منذ قرأوا لأول مرة ألف ليلة وليلة وحكايات الجنس فى عالم النفط والمال العربى. لن أكون مخطئا بدرجة كبيرة لو قلت إن مشاهد من هذا النوع وصورا لا يمكن أن توحى لأحد بأنها تروج لبضاعة اسمها وطن أو أمة. هذه المشاهد والسلوكيات تروج لبضاعة نملكها جميعا، إنسانا وحيوانا، وإن كان لكل منا أسلوبه وطريقته فى الترويج لها، إنها الخصوبة.
***
بينما كنت أشاهد هذه الصور المعبرة والأخاذة، خطرت على بالى صورة أسد الغابة خارجا من عرينه وعلى بعد أمتار منه تقف إناثه فى الانتظار وعموم الحيوانات فى الترقب. رأيته يخرج إلى كل هؤلاء رافعا رأسه نافشا لبدته موحيا بأنه الأقوى جسما وعزيمة والأوفر خصوبة. خطرت صور أخرى، صورة الطاووس فاردا ريشه بألوانه الخلابة مزهوا بنفسه ومروجا بضاعته أمام إناث فصيلته وذكورها، ومشهد أنثى الأوز تمشى فى خيلاء تهز ردفيها فى إيقاع بديع وتمد عنقها متحدية تجاهل ذكور الأوز لها أو انشغالهم عنها، كل حركة تقوم بها أنثى الأوز مثل كل «انتفاشة» للبدة الأسد وكل زئير يصدر عنه، وكل لوحة أداها الطاووس، وكل زهو من رجل عضلاته مفتولة أو شواربه «متعوب» عليها أو شعره لامع مخصب بالدهون الطبيعية أو الاصطناعية، وكل كشف متعمد لمفاتن المرأة أو تكبير للشفاه وتوسيع العيون وشد الوسط، كل هذا وغيره كثير يندرج تحت عنوان الترويج لبضاعة هى الأقدم والأهم والأغلى بين مختلف البضائع التى نشترك فى حيازتها مع صنف الحيوانات.
***
لدى بنى البشر بضائع أخرى يتفردون بها لانفرادهم بالعقل. للمثقفين مثلا بضاعة يروجون لها. وللسياسيين بضاعتهم، وهم الأبرز نشاطا على الإطلاق فى الترويج لبضاعتهم، أقصد لأنفسهم، ففى اعتقادى أنهم وبضاعتهم شىء واحد. أذكر واحدا منهم أسر لى قبل ثلاثين عاما بأنه لم يتخيل نفسه وعائلته مستمرين فى الإقامة ببيتهم وقد اختفى كشك الحراسة من مكانه المتاخم لباب العمارة. لم تتغير السياسة خلال الثلاثين عاما ولم تتغير بضاعة السياسيين أيا كان تعريفنا لها، ولكن تغيرت فنون الترويج لها.
لم يعد بين المروجات كشك الحراسة أو كابينة شاطئ المنتزه أو «التموين» الشهرى المكون من خروف وصندوقين أحدهما للفاكهة والآخر للخضراوات، فهذه كلها حل محلها رتل سيارات سوداء ترافق السياسى حيثما شاء أن يذهب وكتائب من حراس أمن أحدهم أو بعضهم برتب كبيرة جدا، أغلبهم طوال القامة يرتدون بدلا سوداء وربطات عنق فى عز الحر وكلهم بلا استثناء يضعون نظارات شمس أسوة بأقرانهم فى واشنطن. ولتأكيد درجة الشبه بين سياسيينا وسياسيى الغرب، وليس بالضرورة بين سياستنا وسياسة الغرب، استعرنا أسلوب الاستعانة بالعنصر النسائى للترويج لبضاعة رجل السياسة حتى صار ارتباط اسمه أو نشاطه بسيدة بارزة فى مجال تخصصها وتميزها شرطا ليكون سياسيا مرموقا.
***
عشت فى روما وأعرف شيئا عن بضاعة السياسيين فيها وأساليب الترويج لها، ومع ذلك كان المشهد الذى شاهدته الأسبوع الماضى معبرا أكثر من أى مشهد آخر عايشته خلال سنوات طويلة. جاء المشهد معبرا بكل دقة عن وحدة الاهتمام فى أهم حضارتين معاصرتين: حضارة الغرب وحضارة العرب.
رأيت فى المشهد صورة لرئيس وزراء إيطاليا وسط أربعين فتاة إحداهن فى الثامنة عشرة يقضى معهن سهرة فى قصره بجزيرة سردينيا أطلقت عليها صحيفة إيطالية سهرة ليلة من ألف ليلة وليلة، ورأيت فى المشهد نفسه رئيس دولة عربية وحوله أربعون امرأة ممشوقات القوام وبعضهن على قدر كبير من الجمال وكلهن فى كامل زيهن العسكرى يتولين حمايته. كان المشهد يروى بإتقان وصدق روعة اللحظة، لحظة التقاء زعيمين يمثلان حضارتين:
حضارة الغرب وحضارة العرب وهى نفسها لحظة تداخل أهم بضاعتين لدى جنس البشر: بضاعة السياسة وبضاعة الخصوبة.