أُفضّل تعبير «السياسة الاسلامية» بدلا من «الإسلام السياسى»، وأفضّل، من ثم، استخدام تعبير «الإيديولوجيا السياسية الإسلامية» و«الحركة السياسية الإسلامية».
ولقد بدأت «السياسة الإسلامية» الحديثة Islamic Politics كإيديولوجيا وحركة، فى صورة «تقليدية»، أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، مع الدعوة «الوهابية» ذات الجوهر السلفى فى صحراء شبه الجزيرة العربية، وتلتها المهدية فى السودان والسنوسية فى برقة ليبيا، ثم أخذت صورة مختلفة من خلال دعوة جمال الدين الأفغانى إلى (الجامعة الإسلامية) فى سبعينيات القرن التاسع عشر، وانبعثت مرة أخرى مع الأفكار التجديدية للإمام محمد عبده فى مطلع القرن العشرين أثناء تولّيه موقع «مفتى الديار المصرية»، وكان أبرز تلاميذه رشيد رضا، الذى تحول فيما بعد إلى مسار مختلف نسبيا فى عشرينيات القرن، خاصة بعد سقوط «الخلافة العثمانية» ثم ظهور دعوة الشيخ حسن البنا إلى جماعة «الإخوان المسلمين»، ودعوة الإمام عبدالحميد بن باديس فى الجزائر إلى تأسيس (جمعية النهضة)، وتلامذته خاصة البشير الإبراهيمى. ومع حسن البنا وابن باديس، وتلامذتهما، دخلت «السياسة الإسلامية»، كإيديولوجيا وحركة، طورا آخر، نفضل تسميته بالحركة السياسية الإسلامية «الجديدة»، تمييزا لها عما سبقها مما أشرنا إليه، طوال أكثر من قرن، من خلال الحركة السياسية «القديمة» أو «التقليدية».
●●●
ورغم تقلبات الحركة السياسية الإسلامية الجديدة، ونواتها «الإخوان المسلمون»، فقد ظلت هذه الحركة «نخبوية الطابع» بمعنى انحصارها فى إطار صفوة ثقافية محدودة العدد نسبيا. وخاضت جماعة الإخوان المسلمين معاركها السياسية فى مصر قبل وبعد 1952 فى إطار هذا الانحصار النخبوى، إلى حد أنه يمكن القول، بقدر من الحذر، إن الضربات التى وجهها نظام يوليو إلى جماعة «الإخوان المسلمين» عبر ثلاثة عشر عاما (19541967) ردا على استفزازات «الجماعة» إلى حد كبير بقيت فى إطارها ذاك المحدود، كسلسلة من الضربات الموجهة إلى إحدى جماعات النخبة السياسية، ولم تصل إلى حدود التأثير المجتمعى واسع النطاق. وكانت نتيجة ذلك، أن الصدام الدموى المروع بين «الجماعة» و«نظام يوليو» لم يترك أثرا تدميريا من أى نوع على النسيج المجتمعى ومنظومة الحياة السياسية بمعناها الشامل فى مصر.
وبعد عدوان يونيو 1967 تحولت الحركة السياسية الإسلامية، وإيديولوجيا و«سياستها» عموما، من الإطار النخبوى إلى الإطار المجتمعى العريض، فإذا بها على امتداد الوطن العربى والعالم الاسلامى ككل تتحول إلى حركة مجتمعية، وإيديولوجيا «جماعية»، وسياسة «شعبية» أو «شعبوية» إذا صح هذا التعبير.
وبهذا المعنى، توالدت وتناسلت الحركة السياسة الإسلامية، المنبثقة من رحم «الإخوان المسلمين» إلى حد بعيد، متحولة عبر أطوارها المتعددة، وسلالالتها المتوالدة يمينا ويسارا: من «الجماعة الإسلامية» إلى «الجهاد» ومراجعاتها، ثم (تنظيم القاعدة)، أو الدعوة السلفية ثم «السلفية الجهادية».. وغير ذلك كثير.
وفى جميع الأحوال، حققت الحركة السياسية الإسلامية فى مصر خصوصا، نوعا من «الهيمنة الأيديولوجية» على المجتمع المصرى، بحيث ساد «التيار الدينى» ليحيط بمفاصل الحياة الاجتماعية، وينعكس بقوة على التوجه السيكولوجى السلوكى للأجيال الجديدة والقديمة جميعا، بنسب متفاوتة عبر الزمان والمكان (دون أن نتناول فى حديثنا هنا: المجال الدينى السياسى المسيحى عموما والقبطى خصوصا).
●●●
ومن خلال انخراط التيارات الدينية الإسلامية فى الحالة السياسية بعد ثورة 25 يناير 2011، وتبلورها إلى فصيلين كبيرين عريضين فى الوقت الراهن: (الإخوان والسلف)، تم خوض سلسلة من المعارك السياسية الممتدة فى وقت جد قصير (نحو عام ونصف عام)، وآخرها معركة انتخابات رئاسة الجمهورية (والتى لخصها فى النهاية محور مرسى شفيق) وتلتها مباشرة معركة مع «المجلس العسكرى» حول ما يسمى «الإعلان الدستورى المكمل» ومسألة «حل مجلس الشعب».
من حول هذه المعارك، وأحدثها بالذات، أخذ يتبلور نوع فريد من الاصطفاف المجتمعى والسياسى، وإذا بالمشهد المجتمعى والسياسى ينحسر عن «طابورين» متوازيين، إذا صح هذا التعبير : طابور «الإسلاميين»، وطابور نأسف لتعريفه سلبا بأنه: «غير الإسلاميين»، والطابوران متقاربان نسبيا فى القوة العددية والنوعية. وقد أسفر هذا الفرز الثنائى عن ظاهرة بالغة الأهمية هى حدوث المزيد من تحديد الحدود بين الصفين المتواجهين سياسيا، وإبراز الخطوط الفاصلة، فكريا وسلوكيا، بين الناحيتين.
فلأول مرة تخضع المقولات الإيديولوجية الخاصة بالإسلاميين للحوار العام، عبر الصحافة المكتوبة والإذاعة المرئية وبعض الأعمال الفكرية. ولأول مرة يتم خلع رداء القداسة، عما هو غير مقدس بالضرورة، ليصير امتحان الفرضيات، وإجراء النقاش التفصيلى، إلى درجة غير مرغوبة أحيانا، بل ومزعجة أحيانا أخرى، حول مختلف القضايا الدينية ذات الصلة بموضوعات الحوار السياسى، وأهمها قضايا الاحتكام إلى الشريعة، أو مبادئها، أو أحكامها، بما فى ذلك مسألة تطبيق «الحدود» فى التشريع الجنائى الإسلامى.
بل أخذ بحدث نوع من الفرز «الظاهرى» للجمهور المنقسم، كما وكيفا، فإذا بالجمهور «الإسلامى» محدود نسبيا، وأكثر محدودية مما كان يظن فى السابق، وأنه فى حدود تتراوح بين 20% و25% أو 30% من المجموع. ويحدث بهذا كله، ما لم يكن فى الحسبان، أن تظهر إلى العلن حقائق «السر الدفين»، ويخرج «المخبوء» إلى الملأ، سواء على صعيد الإيديولوجيا، أو على صعيد الحركة. وهكذا يمكن القول، إلى حد ما، بانتهاء الأسطورة الغامضة للسياسة الإسلامية فى مصر، والتى حافظت على طابعها الأسطورى والغامض لأربعين عاما تقريبا.
وعلى الجانب الآخر، فقد أخذ يتبين أن (غير الإسلاميين)، أكبر كمّا، وأصلب كيفا مما كان يظن أيضا؛ بيْد أنهم فرقاء متنوعون بل ومختلفون ومتخالفون: من علمانيين على النسق الأوروبى، إلى الدعاة السياسيين إلى ما يسمونه «الدولة «المدنية»، مرورا بتيار عريض غير مبين الملامح، ويتحدد قوامه سلبا برفض ما قد يعتبر من قبيل «التزمت الفكرى والسلوكى» الذى ينحو إليه الإسلاميون، مما ينعكس على أنماط الحياة الاجتماعية، بما فى ذلك زى المرأة وعلاقتها بالرجل.
●●●
وإن هذا كله لا غبار عليه إلى حد كبير، فذلك مما يمكن توقعه فى مثل المرحلة الانتقالية التى تعيشها مصر الآن. ولا بأس بذلك إلى أن يتم تجاوز مأزق هذه المرحلة بأمان، بإذن الله. وهذا هو الجانب الإيجابى فى الموضوع. أما الجانب السلبى الذى لا أتحرج فى التصريح به فهو ما يلى: إن المظلة العامة التى أسبغها التيار الدينى على المجتمع خلال الأربعين عاما الماضية (فترة السادات مبارك) كانت تعبيرا عن (مزاج) أو «ميل» Tendency اجتماعى عام، محافظ الطابع، هو «الميل الدينى». وبرغم انحراف الميل إلى مسلك «العنف» نهاية السبعينيات، وفى الثمانينيات وأوائل التسعينيات، خاصة كرد فعل للسلوك الدموى الظاهر أو الباطن لكل من السادات ومبارك عبر فترات متعددة، وبرغم ما يولده السلوك «المحافظ» عادة من عيوب لا يبرأ منها المجتمع بسهولة، فإن التيار الدينى كما كان انعكاسا للواقع، فقد كان رد فعل عليه وبلسما مداويا لدائه العضال. ففى مواجهة أعراض التحلل التى زرعها النظام البائد طوال أربعة عقود، ومحاذير التفكك العام، كان التيار الدينى «يجرح ويداوى» كما يقولون، وكانت «اللحية» و«الحجاب» رمزا وأى رمز للاعتصام بما هو ممكن فى ظل الوضع القائم والسعى إلى تحسينه من خلال أدوات «المجتمع الدينى» المتاحة، بدلا من تحطيم الذات والجماعة فى عمل عنفى لا يبقى ولا يذر، فلا يهدم قديما بحق، ولا يقيم بناء جديدا بحق أيضا.
وتشى بعض الألفاظ المتطايرة، والسلوكات العابرة المشرئبّة، من أنصار المعسكر المواجه، معسكر «غير الإسلاميين»، خاصة من جانب دعاة ما يسمى «الدولة المدنية» و(حقوق الإنسان والمرأة)، بما قد لا تحمد عقباه: من ميل إلى «إحراق المراحل» على مسيرة التحديث، على النمط الأوروبى فيما يبدو. ويظل هذا متوقعا فى مجال الانعكاسات السياسية للميل (العلمانى) فى حده المطلق الذى كان مستبعدا فى مجتمعنا حتى وقت قريب (اكتفاء بالعلمانية النسبية أو المحدودة على حد تعبير المرحوم عبدالوهاب المسيرى).. كما يظل ذلك متوقعا أيضا فى مجال الانعكاسات السلوكية فى مجال (الحياة اليومية) لدعاة التحرر (المطلق) فى العلاقة بين الرجل والمرأة.
●●●
فهل يستطيع مجتمعنا السياسى أن يتجاوز عيوب الاصطفاف المزدوج الحاد بين المعسكرين المتواجهين، ويعيد تشذيب الميول الدينية السياسية للإسلاميين، وتهذيب الميول (الجانحة) بمعنى ما، للبعض من (غير الإسلاميين)..؟
ثم ما هى انعكاسات نهاية الأسطورة السياسية للإسلاميين على الجانب (المسيحى) فى مصر ؟ وهل يمكن أن يسعى البعض إلى إحياء أسطورة معاكسة تحاكى ذلك الذى وقعت نهايته بالفعل؟ وهل يستطيع التيار الوطنى القومى التقدمى أن يقدم البديل الفكرى والحركى المناسب، لتجاوز المأزق، وكسب «الجمهور المجتمعى الحائر»، الواقف سأما وقلقا بين المعسكرين؟ وهل تستطيع قوى اليسار العروبى والاشتراكى أن تحقق المعجزة، فتكسب الجمهور الحائر، وتضع الحقيقة الناصعة أمام المعسكرين المنقسمين فى مصر، بل وفى الوطن العربى كله ثم العالم الإسلامى العريض؟
هذا سؤال الوقت ولا نجيب عنه، بل نترك جوابه للمعنيين بالأمر، وإن غدا لناظره قريب!