عقد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع قريش صلح الحديبية فى السنة السادسة من الهجرة، وكان مما نُص عليه فيه أن من شاء أن يدخل فى عقد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعهده فعل ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم فعل. فدخلت خُزاعةُ فى عقد رسول الله وعهده ودخلت بنو بكر فى عقد قريش وعهدهم.
وذات يوم اعتدى نفر من بنى بكر بن وائل يؤازرهم حلفاؤهم من قريش على رجال من خزاعة، لم يكونوا مستعدين لقتال، فلجأوا إلى الحرم حيث لا يجوز قتال لكن بنى بكر، وحلفاءهم من قريش، تبعوهم إلى داخل الحرم ولم يتوقفوا عن القتال فيه.
وكان الباعث على وقوع هذا العدوان من بنى بكر على خزاعة ثارات قديمة شغلهم عنها ظهور الإسلام وما أحدثه من حِرَاكٍ فى مكة. فلما خرج المسلمون بالهجرة إلى المدينة عادت الصراعات المكية الداخلية سيرتها الأولى.
وفزعت خزاعة مما حل بها، واستنجدت برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، تطلب النصرة على من نقضوا عهد الحديبية، والهدنة التى اتفق عليها فيه. واستجاب النبى (صلى الله عليه وسلم) لهذه الاستغاثة وأجاب وافد خزاعة بالنصر، ويروى أهل السير فى ذلك شعرًا لا يثبته أهل الحديث، وهو شعر جميل على كل حال(!)
ينسب هذا الشعر إلى عمرو بن سالم الخزاعى، فيزعمون أنه قال أبياتًا منها:
يا رب إنى ناشدٌ محمدًا حلفَ أبينا وأبيه الأتلدا كنت لنا أبًا وكنا ولدًا
ثُمَّت أسلمنا ولم ننزِع يدا فانصر هداك الله نصرًا أيِّدا وادع عباد الله يأتوا مددا
إن قريشًا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا وزعموا أن لست أدعو أحدًا
وأهم أذل وأقل عددًا
وهكذا لم يتجهز رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صحت رواية هذا الشعر أم لم تصح إلا بعد استغاثة خزاعة من عدوان بنى بكر بن وائل وقريش. ويروى أصحاب السير، وبعض أصحاب السنن أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لعمرو بن سالم: «نصرتَ يا عمرو بن سالم»: أو قال له: «لا نُصِرتُ إن لم أنصركم».
كان وفاء المسلمين فيما أحبوا وكرهوا بما أوجبه عليهم عهد الحديبية، أمرا لا مراء فيه ولا تردد، ولكن قريشا لم تف بعهدها لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ونقضته فى معونتها بنى بكر بن وائل على خزاعة، فانتهى بذلك أمر الحديبية وهدنتها وشروطها كلها.
وكذلك الحال فى كل عقد إذا نقضه طرف أصبح الطرف الآخر فى حلٍ منه، وأصبح استمساكه به ضعفًا وهوانًا لا يجوزان فى شرع ولا عقل(!)
فلما أدركت قريش خطورة نقضها عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أرسلت أبا سفيان إلى المدينة، فى محاولة لإعادة حرمة العقد الذى أهدرته قريش إلى أصلها. فلقى أبا بكر، وعمر، وعلى، يرجو من كل منهم أن يشفع له عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأبوا. ونصحه على أن يعود من حيث جاء قائلا له: «إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد عزم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فعاد أبو سفيان إلى قريش يخبرهم بإخفاقه وبأن أمرا جللا أصبح وشيك الوقوع، وأمر النبى (صلى الله عليه وسلم) أصحابه بالتجهز للخروج، وأعلمهم أنه يريد مكة، وأوصاهم بحسن الاستعداد والتعجل فيه. وأدرك المسلمون أن الساعة الفاصلة مع أهل مكة قد دنت فأعدوا لهذا اللقاء أحسن ما يستطيعون من عدة وعتاد.
وابتلى المسلمون فى هذه الأثناء بحادثة غريبة إذ تطوع حاطب بن أبى بلتعة، من المهاجرين البدريين أهل السابقة فى الإسلام، بالكتابة إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إليهم، وأوحى صنيعه هذا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فبعث عليًا والزبير والمقداد، رضى الله عنهم، فى أثر حاملة الخطاب، وهى جارية لحاطب، فأخذوه منها، وأتوا به رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؛ فدعا حاطبا وسأله ما هذا يا حاطب؟ فقال لا تعجل على يا رسول الله، إنى كنت امرأ مُلْصقا فى قريش، وكان من معك من المهاجرين لهم فيها قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت، إذ فاتنى ذلك من النسب فيهم، أن اتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتى، ولم أفعله ارتدادا عن دينى ولا رضا بالكفر بعد الإسلام.
قال النبى (صلى الله عليه وسلم) أما إنه قد صدقكم! فقال عمر: يا رسول الله لقد نافق فدعنى أضرب عنقه(!)
فرد عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) قائلاً إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدرا فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. ونزل فى ذلك قرآن: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق..}.
لقد كان هذا درسا عظيما للمسلمين، بل للبشرية كلها، أن صاحبَ الفضل والسابقة إذا أخطأ لا يجوز أن ينسى فضله، وتسقط سابقته، بخطئه، بل يَشْفَعُ الماضى للحاضر، فيقالُ من عثرته، ويذكره إخوانه بأفضل ما فيه، لئلا ينسى المؤمنون الفضل بينهم.
وغدًا نستكمل إن شاء الله.