نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب محمود برى، تحدث فيه عن شبكات اتصال الجيل الخامس، وأهم العقبات التى تواجه موجات هذه التكنولوجيا وكيفية مواجهتها، كما تناول المخاوف من تطوير ذكاء هذه الآلات... نعرض من المقال ما يلى:
نحن فى خضم الثورة الصناعية الرابعة. هل علينا أن نحتفل بإنجازنا، أم أن نخاف منه؟ الثورة الأولى كانت التحريك بالمحرك البخارى. الثانية كانت بالاعتماد على الكهرباء والبترول ومُحرك الاحتراق الداخلى. الثالثة كانت بظهور الإنترنت والاتصالات والتكنولوجيا الرقمية والإلكترونيات والأتْمَتَة. وها نحن فى خضم الثورة الصناعية الرابعة: الجيل الخامس G5 من الذكاء الاصطناعى ويشمل إنترنت الأشياء والطباعة ثلاثية الأبعاد وتكنولوجيا النانو والتكنولوجيا الحيوية والحَوسبة الكمومية، وغيره من هذه الفصيلة. ويبقى النجم الأبرز فى الثورة هو الجيل الخامس من شبكة الإنترنت الذى هو عماد كل هذه الإنجازات المُذهلة.
فما هى تقنية الجيل الخامس هذه؟ وما الذى يميزها عن الجيل الرابع؟ هل هى ثورة أم إنجازٌ تقنى أم خطوة تقدمية تحف بها المخاطر وتُهدِد الحياة؟ وهل تعنى أن البشر والآلات سوف يندمجون فى نهاية المطاف لخلْق ما يسمى بـ «البشر المُعزَزين» أو ما بعد الإنسان. وبعد: هل نحن بحاجة فعلا إليها، ولماذا؟
ربما تكون كل ذلك معا فى توليفةٍ جنونية ينبغى علينا أن نفهمها لنحكُم عليها.
شبكات اتصال الجيل الخامس هى تقنية لاسلكية لتبادُل البيانات التى نتناقلها اليوم بواسطة هواتف الجيب وبآلات التواصُل المنزلية والمكتبية بفضل الإنترنت. المعنى أنها مثل الـ G4 أو سابقتها الـG3، لكنها أكثر تطوُرا وتقدُما بما لا يُقاس. فهى تُحقِق سرعة فائقة فى تنزيل البيانات وتحميلها (أسرع بـ 35 مرة وربما أكثر من الشبكات السابقة) مع تغطيةٍ أشمل وسِعَةٍ أكبر بكثير.
والحال فهذه الشبكة تُتيح القيام بالمهام بشكلٍ أسرع وأفضل بكثير مما يُمكننا القيام به اليوم بواسطة هواتفنا الذكية وحواسيبنا عبر شبكة الجيل الرابع وما قبله. يتضمن ذلك تحسينَ استخدامِ الطيف الراديوى، وتمكين المزيد من الأجهزة من الوصول إلى الإنترنت.
ولعل بعض التفصيل يبدو ضروريا. هذه التقنية ليست مُقتصرة على مجرد زيادةٍ فى سرعة الإنترنت، بل تتضمن أيضا توسيع نِطاق الأنشطة التى يُمكننا القيام بها حاليا ومضاعفته عشرات المرات، كما تتضمن خدماتٍ استثنائية وغير معروفة يتم بناؤها مما لا يُمكننا التنبؤ به منذ الآن. وهذا سيُتيح للأجهزة مُعالَجة حجْمٍ هائلٍ من البيانات بأقل قدر من الوقت. وعلى سبيل المثال سيكون بوسعنا مثلا بفضل هذه التقنية تشغيل أعداد كبيرة من الطائرات المسيَرة من دون طيار، وكلها تتواصل لاسلكيا فى ما بينها، ومع محطاتٍ قاعدية أرضية تُديرها وتُسيطر عليها وتوجِهها عبر شبكات G5، ويجرى تنسيق عملها عبر التوجيهات الإلكترونية لتنفيذ مهام البحث والإنقاذ والمُراقَبة وسواها على مساحاتٍ هائلة، أو لاستكشافِ بؤرِ حرائق الغابات، أو لرصْدِ حركة المرور فى المُدن العملاقة. فشبكة الجيل الخامس توفِر نطاقا تردديا عاليا للغاية واتصالات أكثر موثوقية للهواتف الذكية والأجهزة المُشابهة، كما تُعزِز طاقةَ الذكاء الاصطناعى وإمكاناته، وكذلك الحَوسبة السحابية. كل ذلك سيعمل على تعزيز النشاط الاقتصادى عموما وينتقل بالصناعة إلى مصاف متقدمة.
وعلينا أن نأخذ بنظر الاعتبار أننا فى عالَم اليوم بتنا نَستهلك المزيد من البيانات مع زيادة الاعتماد على الإنترنت. لذلك صارت الانقطاعات فى خدمة الإنترنت ظاهرة يشكو منها الجميع... وهذا يكون مفهوما ومُبرَرا، ولاسيما عندما يحاول الكثيرون من الأشخاص فى المنطقة نفسها الوصول إلى خدمات الهاتف المحمول عبر الإنترنت فى آنٍ واحد. إلا أن نقطة الضعف هذه سوف تختفى بفضل الجيل الخامس باعتباره أكبر طاقة وأوسع تردُدا وأسرْع أداء.
• • •
تعمل موجات تردُد الجيل الخامس على نِطاقٍ أقصر من مَوجات الأجيال السابقة، ما يعنى الحاجة إلى مزيدٍ من الهوائيات لنقْلِ البيانات، على أن تكون أقل ارتفاعا، وبالتالى على مسافةٍ أقرب من سطح الأرض. وهذا ما يُثير ريبة الجمهور المتخوِف من أبراج الاتصال أساسا.
كذلك يعيب أداء هذه المَوجات أنها ليست مؤهَلة للانتقال إلى مسافاتٍ بعيدة، وغير جديرة باختراق الخرسانات وعبور المبانى التى تُشكِل عوائق أمامها تحول دون سلامة عملها. كذلك فموجاتها تُصبح أضعف فى حالات الطقس العاصف والمُمطر، وكذلك فى الأماكن التى تكثر فيها الأشجار، حيث يجرى امتصاص وضياع جزء كبير من هذه المَوجات، ما يعنى عدم توفُر اتصالٍ مُستقر ولا نقلٍ سليمٍ للبيانات.
ومن أجل تجنُب كل ذلك تعتمد البنية التحتية لشبكات الجيل الخامس على زيادةِ عدد أبراج الاتصالات وجعْلها قريبة من بعضها، بالإضافة إلى تزويدها بمنافذ إدخال وإخراج أكثر بكثير من تلك الموجودة فى أبراج شبكات الجيل الرابع. والنتيجة تكون المزيد من «مصادر الإشعاعات» التى تلتقطها وتُعيد بثها. ومن هنا تتضاعف المخاوف (ومعها الاتهامات) باعتبار أن المُشتبه به الأساسى فى التسبُب بالضرر والمَخاطر الصحية، هو هذه الإشعاعات الكهرومغناطيسية بالذات التى تَستخدمها تقنيات الإنترنت كافة، وتلتقطها من الأبراج وتُرسلها عبرها، مما يُشاع أنه يُؤدى إلى تدهور الأنسجة الحية والتسبُب بالشيخوخة المُبكرة.. إلى ما هنالك من أقاويل لم يُمكن حتى الآن إثبات أىٍّ منها.
وفى مختلف الأحوال فمن المُمكن أن نقى أنفسنا من هذا الخطر، مهما كان ضئيلا، وذلك باستخدام ما يُعرف بـWiــFi Guard، وهو جهاز صغير يحجب ما يتراوح بين 90% و95% بالمائة من الإشعاعات الصادرة من أجهزة الراوتر، مع الحفاظ على استقرار الاتصال وسرعته.
• • •
تبقى هنا محطة لا يصح تجاهلها وتتعلق بالذكاء الاصطناعى. فشبكات اتصال الجيل الخامس تَطرح بقوة مسألة (بل ربما معضلة) هذا النوع من الذكاء، حيث إن السِعات العملاقة والسرعات الهائلة فى المُعالجات مع الجيل الخامس تُساعد فى دفْعِ إمكانات الذكاء الاصطناعى إلى آفاقٍ غير مسبوقة، بحيث يتفوَق ذكاء الآلة على ذكاء صانعها. وهذا يُعيدنا إلى أجواء الحَذَرِ وحتى المَخاوف من تطوير «ذكاء الآلات والأشياء» ودفْعها إلى آفاقٍ جديدة، حيث يُعزَز جسم الإنسان بالتقنيات المتقدمة، ما يُتيح إنتاج ما يُمكن اعتباره «بشرا رقميين» من خلال إتاحة القدرة للآلات على التعلُم والتصرُف بذكاء، أى اتخاذ القرارات وتنفيذ المهام وحتى التنبؤ بالنتائج المُستقبلية بناء على ما تتعلمه من البيانات.
ومنذ ظهور هذا النوع الجديد من الذكاء، تسابقت المخاوف منه إلى الواجهة وتحدثت عنها شخصيات علمية بارزة مثل «ستيفن هوكينج» و«بيل جيتس» و«أيلون ماسك»، وهو ما مَنحها قدرا وافيا من الجدية، ثم جاءت السينما لتعطيها الأبعاد الاجتماعية الواسعة.
والحقيقة أن أحدا اليوم لن يكون بإمكانه تقدير ما يُمكن أن ينتهى إليه الذكاء الاصطناعى، وما يُحتمل أن يبلغه ذكاء الآلات على مستوى المَخاوف المطروحة من احتمال تجاوزها ذكاء صانعيها البشر والتحكُم بالتالى فى مسيرة «الجنس الذكى» ومصيره. لكنْ ما يبعث على الاطمئنان هو استحالة زرْع نزعات الإنسان وانفعالاته فى الآلة. لذا فإن ذكاءها لن يكون مستقلا عن الإنسان المُشغِل.
لكن المشكلة ربما لن تكون منتهية بل مؤجَلة فقط. فقد علَمنا سلوك البشر أننا لن نوقف طموحنا عند أى حد مهما تجلت المخاطر المُحتملة. لذا فلا مكان لأى حديثٍ عن كف أيدى العُلماء عن تطوير ذكاء الآلات، أو المضى قدما فى تسخير قدرات شبكات الجيل الخامس فى هذا السبيل. من هنا فإن عالَم ما قبل الذكاء الاصطناعى وما قبل شبكات الجيل الخامس، لن يكون أبدا العالَم ذاته بعدهما. المؤكد أن شبكات الجيل الخامس ستُغيِر حياتنا بشكلٍ كبير... ومن المُمكن أن تكون جديرة بتحويل مستقبل البشرية نحو الأفضل إذا ما أُحسن استخدامها.
إن «النجاح فى إنشاء الذكاء الاصطناعى، كما قال «ستيفن هوكينج» ذات يوم، سيكون أكبر حَدَثٍ فى تاريخ البشرية. ولكن لسوء الحظ، قد يكون آخر حدث أيضا، ما لم نتعلم كيفية تجنُب المَخاطِر».
وهذا أكثر من إنذار.
النص الأصلي