جمعتنى وعدد من الكتاب العرب المتقدمين فى العمر جلسة سمر ساهرة. بدأنا الحديث بمناقشة حول التزام الكاتب، خاصة الأكاديمى، استخدام الهوامش لتعزيز ثقة القارئ فى معلومات المتن أو مساعدته فى العودة إلى مراجع ووثائق جاءت هذه البداية استطرادا لمناقشة جرت من قبل للتعليق على ما جاء فى إحدى انطباعاتى الأخيرة حول العلاقة بين الكاتب والهوامش. أعجبنى قول أحد الساهرين إنه يكره الهوامش، يكره كتابتها ويكره وجودها فى صفحات كتب يعود إليها. شدد على أنه يكره ما تفعله هذه الهوامش بمتعة القراءة. يكرهها عندما تفرض عليه التوقف فى الاسترسال فى القراءة والاستمتاع باللحظة لينزل ببصره إلى أسفل الصفحة لقراءة هامش لا يريده ولن يفيده. لم يكتف الصديق بإعلان كراهيته، إنما أراد التأكيد عليها وحثنا على الاقتداء به، بأن شبه التوقف القسرى أثناء القراءة للنزول إلى الهامش أسفل المتن، برجل مستمتع بلحظة عاطفية فى غرفة نومه، فإذا بجرس الباب يرن ليقطع عليه هذا الاستمتاع، ويدفعه رغما وعنوة للنزول إلى الطابق الأرضى ليفتح الباب لطارق سخيف.
•••
بقية السهرة قضيناها نناقش ظاهرة رفض معظم الكتاب الاعتراف بأنهم وصلوا إلى نهاية الطريق. يعيب الكاتب على السياسيين رفضهم ترك مناصبهم، ولكنه يفعل الشىء نفسه حين يصر على مواصلة الكتابة تقدم به العمر أم أقعده مرض. يرفضون التوقف. اعترف الحاضرون بأن أحدا منهم لن يعلن يوما بإرادته الحرة أنه يكتب آخر مقال أو آخر رواية أو آخر عامود صحفى. لا توجد كلمة «آخر» فى قواميس وأعراف عالم الكتابة.
قال كاتب إن المطرب يغنى طالما وجد جمهورا يسمعه، لن يعترف أن صوته تغير أو أن أنفاسه تقاربت وأوتار صوته تهدجت.
لاعب الكرة سيعتزل عندما تتهرب النوادى الرياضية من التعاقد معه، أو ترفض التجديد له. الجراح سيتوقف عن إجراء العمليات عندما لا تقوى أصابعه على الإمساك بالمبضع والتحكم فيه.
ومع ذلك، فبين هؤلاء كثيرون يعاندون. يرفضون تصديق علامات التغيير ونصائح المقربين. سمعنا عن موسيقيين أصيبوا بالصمم واستمروا يؤلفون الموسيقى، ومطربين ومطربات لم تفارقن خشبة المسرح أو ابتعدن عن ميكروفون الإذاعة إلا بعد أن انفض السامعون والمشاهدون.
•••
ومع ذلك يبقى الكاتب ظاهرة فريدة. لا يتوقف. لن يكتب أبدا مقاله الأخير أو كتابه الأخير. دوستويفسكى عاش آخر أيامه يتنقل بين الأريكة والمكتب وهو يفكر فى كتابة الفصل العشرين فى الإخوة كارامازوف، آندريه جيد، كان وقد تقدمت به السنون يسأل بعد الانتهاء من أى شىء يكتبه أليس عندى ما أضيف. «أشعر برغبة شديدة فى النوم، ولكن يوجد عندى ما أكتبه، على كل حال لم يكن فى نيتى أن أعيش إلى هذا العمر المتقدم».
ولكن تشيكوف اعترف فى أواخر أيامه بأنه أصبح «مثل ليمونة معصورة»، وحينا آخر مثل «زجاجة مشروخة» واستمر يكتب. ألكساندر دوما كان يقول «لا أعرف متى تنتهى الرواية»، وكان يقصد متى ينتهى هو لينتهى من الكتابة. أحدهم قال إن أفضل ما كتبه لم يكتب بعد، «ما أكتبه فى المستقبل سيكون أفضل أعمالى على الإطلاق».
•••
ينقلون عن جوزيف كوانراد قوله إنه مرت عليه أربع سنوات لم يكتب خلالها شيئا محترما، وتساءل: «هل هذه هى النهاية؟». وأظن أنه القائل بأنه إذا طلب منه أن يكتب آخر كلماته فلن يجد كلمة واحدة يكتبها.
•••
امتد الحوار إلى ساعة مبكرة من اليوم التالى. البعض ألمح إلى أن النعاس لم يغلبهم بعد، وأنهم مستعدون لمواصلة الحوار ساعات أخرى. وحين طلبنا من أكبرنا سنا التعليق على ما دار طوال الليل، قال: الأمر المؤكد فى القضية التى طرحت فى النقاش الليلة هو أن للكتابة قوة السحر، هذه القوة هى التى تجعل الكاتب يعتقد أنه «يعيش بعد الموت».
•••
ألم يكن «الخلود» طبيعة ثانية للكاتب على امتداد التاريخ؟.