مع رحابة فضاء المفهوم الموسع للأمن، أمست قضايا من قبيل تغير المناخ، التدهور البيئى، اضطراب التنوع الحيوى، معضلات استراتيجية، تتطلب مجابهتها مقاربات سياسية، بموازاة المبادرات العلمية. ومن هذا المنطلق، أوصى رواد «مدرسة كوبنهاجن للدراسات الأمنية»، بضرورة «أمننة البيئة والمناخ»، بحيث يتم التعاطى مع مختلف الملفات ذات الصلة، بوصفها مرتكزات لأمن الدول القومى. وعلى أثر تعاظم الوعى الكونى بمخاطر التغير المناخى، باعتباره أحد أبرز مصادر التهديد المباشرة للأمن والسلم الدوليين فى قادم الزمن، بدأ يتخلق فى رحم الأدبيات السياسية والمحافل الاستراتيجية، مصطلح «الأمن المناخى».
أوجدت العلاقة الارتباطية ما بين الأمنين المناخى والبيئى، لجهة تسبب الانبعاثات الغازية الضارة فى الارتباك البيولوجى، حاجة ملحة إلى إدراج التغيرات المناخية، ضمن أولويات أجندات الأمن القومى. كما عرجت بها من «مجتمع السياسات الدنيا»Low Issue Politics، المرتهنة بقواعد الديمقراطية والشفافية وتقاليد اتخاذ القرار، إلى «عالم السياسات العليا» High Issue Politics، التى تتميز بالاضطرارية والأهمية المفرطة. وفى دراستها المعنونة: «التغيرات المناخية والأمن»، ارتأت «المؤسسة الألمانية للتعاون الدولى»، فى اجتماع مجلس الأمن الأممى عام 2007 بشأن التغيرات المناخية، تحولا مصيريا فى منهاجية التعامل مع تلك الظاهرة؛ بحيث تتسع دائرة الاهتمام الكونى بها، لتتجاوز الاعتبارات الفنية والبيئية، وتلامس الأبعاد الأمنية والاستراتيجية.
بمرور الزمن نالت التداعيات الكارثية للتغيرات المناخية من قدرة المجتمعات التكيفية، وأسهمت فى زعزعة استقرارها، عبر تهديد هوية الجماعات البشرية، وخلق تربة خصبة للتطرف والصراع. من هذا المنظور، حدد «المجلس الاستشارى الألمانى»، المعنى بالتغير المناخى، مسارات أربعة لدور الأخير فى تأجيج النزاعات المسلحة؛ هى: تدهور موارد المياه العذبة؛ انعدام الأمن الغذائى؛ زيادة وتيرة الكوارث الطبيعية وشدتها؛ وزيادة أنماط الهجرة أو تغييرها. وفى يونيو 2019، خلصت دراسة منشورة فى دورية «Nature» العلمية البريطانية، بعنوان: «المناخ كمؤشر خطر للصراعات المسلحة»، إلى أن 20% من صراعات القرن الفائت، لم تكن منبتة الصلة عن التغيرات المناخية. كذلك، توقعت أبحاث علمية شتى، تنامى تلك النسبة مستقبلا، مع تفاقم التقلبات المناخية، التى ستتمخض بدورها عن مزيد من الكوارث الطبيعية. وتنبأت دراسات بيئية عدة بأن يفضى ارتفاع درجات الحرارة بنسبة 4%، فى ظل توفر عدد من العوامل المساعدة، كغياب التنمية الاجتماعية، وتردى الأوضاع الاقتصادية، وضعف المؤسسات، وهشاشة الدولة، وتراجع دورها، وتآكل قدرتها على إدارة الموارد، والسيطرة على الكوارث، واحتواء الأزمات، إلى تعاظم تأثير المناخ على النزاعات والصراعات الدولية العنيفة، خصوصا تلك المتعلقة بالموارد المشتركة أو العابرة للحدود، بنسبة 26%، بما يعادل خمسة أضعاف نظيره الحالى.
لفهم العلاقة السببية بين تغير المناخ، والموارد الطبيعية، والأمن الإنسانى، والتداعيات المجتمعية، طور خبير المناخ الأمريكى، يورجن شيفران، نموذجا متكاملا، ومن خلاله، سلط الضوءعلى تنامى التوترات والاضطرابات المجتمعية؛ نتيجة للتدهور الاقتصادى، وانعدام الأمن الغذائى والمائى، وتفاقم المشاكل الصحية، وشيوع الهجرة، وضعف المؤسسات، وتآكل الثقة، بما يؤدى إلى تفجر أشكال متنوعة من العنف، وانتشار الممارسات غير المشروعة. ووفقا للدراسات والتقارير الصادرة عن «الهيئة الحكومية الدولية»، المختصة بتغير المناخ، أصبح الأخير محفزا للندرة، وأداة ضغط على النظام البيئى. فلطالما أدى ارتباك هطول الأمطار، وارتفاع درجات الحرارة، إلى إعادة تشكيل الخريطة الإنتاجية للغذاء، والمياه، والطاقة بشكل غير متوازن، فى بقاع متفرقة من العالم، فضلا عن ارتفاع منسوب المحيطات والبحار، وتآكل طبقة الأوزون، وفقدان التنوع الحيوى، وتفشى الأوبئة والأمراض. الأمر الذى كرس تنقلات السكان الاضطرارية وغير النظامية، سواء المحلية منها، أو العابرة للحدود.
وفى سبتمبر الماضى، أبرز تقرير «المعهد الملكى للشئون الدولية»، دور التغيرات المناخية فى تردى مظاهر السلامة الحضرية. فعلى الصعيد الاقتصادى، لم يعد سرا، أن موجات الاحترار، وحرائق الغابات، والفيضانات، والجفاف، ستؤثر سلبا، لا محالة، على الأمن الغذائى والبنية التحتية لأمن الطاقة والأمن المائى، وهو ما يُضر بقطاعات عديدة صناعية، كما بأنشطة تجارية. ولم يستبعد الخبراء الدوليون أن تتسبب الكوارث المرتبطة بالطقس، فى تدافع المزيد من سكان العالم نحو الفرار من المآسى، بما يفاقم معدلات الهجرة والنزوح الجماعى واللجوء البيئى. فخلال الفترة ما بين 2008 وحتى 2020، بلغ متوسط عدد النازحين، على الصعيد العالمى، داخل بلدانهم، نحو 21,8 مليون شخص. وتوقع البنك الدولى، أن يتمخض تغير المناخ عن نزوح حوالى 140 مليون شخص، بحلول العام 2050، من داخل أفريقيا جنوب الصحراء، وجنوب آسيا، وأمريكا اللاتينية، الذين يمثلون معا حوالى 55% من سكان العالم النامى.
ما كان الأمن الغذائى العالمى ليسلم من التداعيات المؤلمة للتغيرات المناخية، والتى من المتوقع أن تطوى بين ثناياها طيفا من الأمراض الحيوانية والنباتية، التى ستسهم، دون شك، فى تراجع إنتاج المحاصيل الغذائية، بما يسفر عن ارتفاع أسعار السلع والمنتجات الغذائية. وهى الإرهاصات، التى غالبا ما تنذر بتفشى أزمات سوء التغذية، وانتشار المجاعات. أما أمن الطاقة، فليس بمأمن من تلك الملمات، إذ يتوقع الخبراء أن يؤدى زيادة «جزر الحرارة الحضرية»، فضلا عن انخفاض مياه التبريد داخل محطات الطاقة الحرارية، إلى الانقطاع المتواصل فى التيار الكهربائى، بما يعطل مسيرة الإنتاج ويقوض استمرارية الحياة اليومية. فقبل قليل، لقد أرجع مختصون العجز العالمى فى رقائق أشباه الموصلات، جزئيا، إلى اضطرار سلطات ولاية تكساس الأمريكية لإغلاق مصانع الإنتاج، جراء تزايد معدلات انقطاع التيار الكهربائى، أثناء موجة البرد غير المسبوقة، التى ضربت الولاية، خلال شهر فبراير الماضى.
من منظور استراتيجى، توقع خبراء أن تفضى التغيرات المناخية إلى صعود التنظيمات المتطرفة، واندلاع العنف بين الأفراد والجماعات، علاوة على تنامى احتمالية نشوب الصراعات المسلحة بين الدول، حول الموارد والثروات الطبيعية. وفى مارس 2021، سلط تقرير «الاتجاهات العالمية 2040»، الصادر عن «مجلس الاستخبارات القومى الأمريكى»، الضوء على دور التغيرات المناخية فى مضاعفة المخاطر، التى تتهدد الأمن الإنسانى. الأمر الذى من شأنه أن يجبر الدول على إجراء مقايضات حرجة، أو تبنى خيارات صعبة. وربما يؤدى توزيع الأعباء بشكل غير متساو، إلى زيادة حدة المنافسة، والإسهام فى زعزعة الاستقرار، وتقويض الجهوزية العسكرية، وتحريض الجماعات السياسية وحركات التمرد والإرهاب، على تهديد أمن الدول وبقائها. أما بخصوص الأمن الصحى، فقد أكدت دراسة لمجلة «لانسيت» العلمية، عام 2019، مسئولية التغير المناخى عن ازدياد مسببات الأمراض، لاسيما المعدية والمنقولة. ومؤخرا، توصل علماء إلى صلات مباشرة ما بين جائحة «كوفيدــ19»، وارتدادات التغير المناخى والاختلال البيولوجى.
ثمة تهديد وجودى يتربص بالدولة الوطنية. فقد حذر تقرير أعده خبراء المناخ بالأمم المتحدة، فى 23 يونيو الماضى، من أن التغير المناخى سيدمر الحياة على كوكب الأرض فى غضون ثلاثين عاما أو أقل. فمن شأن ذوبان الغطاء الجليدى غرب القارة القطبية الجنوبية «أنتاركتيكا»، والذى يكفى وحده لرفع مستوى سطح البحر فى جميع أنحاء العالم بحوالى 11 قدما، أن يقود إلى إغراق مساحات هائلة من الأراضى والمدن الساحلية فى مختلف قارات العالم. ولا يستبعد العلماء كذلك، أن ينطوى على تهديد وجودى لـ 58 دولة جزرية صغيرة منخفضة، شديدة التأثر بظواهر الطقس المتطرفة وتغير المناخ، بما فى ذلك اشتداد وطأة الأعاصير، واندلاع العواصف والأمطار الغزيرة، وارتفاع مستوى سطح البحر، وتحمض المحيطات، وتمدد الجفاف والتصحر. وخلال الدورة الـ 76 للجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة، ائتلف عدد من قادة الدول الجزرية مثل فيجى، وتوفالو، وجزر المالديف، ودقوا ناقوس الخطر، لتهديد وجودى، سيجتاح بلدانهم، حالة عدم وفاء الدول الغنية مجددا بوعودها، لجهة اتخاذ التدابير الكفيلة بالتصدى لظاهرة الاحتباس الحرارى.
على غير المألوف، ذهب العالمون بخبايا الأمور المناخية والبيئية، إلى عدم استبعاد تمدد أصداء التغير المناخى، لتلقى بظلالها الكئيبة على نمط العلاقات الدولية السائد منذ صلح ويستفاليا عام 1648، والذى جعل من مبدأ «احترام سيادة الدول» إطارا ناظما للتفاعلات بين الفاعلين الدوليين. حيث يعتقد الخبير البيئى الألمانى، أندرياس كلوته، أن التحرك لمناهضة ما أسماه «الإبادة البيئية»، سيغدو مسوغا لتدخل المجتمع الدولى فى شئون الدول، التى تهدد سلامة النظام البيئى. وقد أيده، ستيوارت باتريك، الخبير بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكى، والذى لم يعد يرى فى الأغراض الإنسانية، مبررا وحيدا للتدخل فى شئون الدول الأخرى، بعدما طغت ذريعة جديدة أشد إلحاحا، تتمثل فى ظاهرة الاحتباس الحرارى، التى باتت انعكاساتها الخطيرة تهدد المحيط الحيوى لكوكبنا الأزرق، الذى تغمر المياه 71% من مساحته.
بجريرة الاحترار المتفاقم، اجتاحت الفيضانات مقاطعات ألمانية، وابتلعت جزرا فى المحيط الهادئ، كما تأججت حرائق الغابات، التى أقضت مضاجع أستراليا، فيما دهمت المجاعات بلدانا أفريقية. وفى عام 2019، أرخى ذلك التحول ظلاله على العلاقات الدولية، بتفجر الخلاف بين الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون ونظيره البرازيلى جاير بولسونارو، الذى غض الطرف عن إزالة ما يعادل مساحة لبنان من غابات الأمازون المطيرة المدارية الأضخم عالميا، والتى تعد رئة كوكبنا المائى، حتى بلغت نسبة الفاقد منها 15%، متذرعا بإنعاش أنشطة التعدين والزراعة ورعى الماشية، التى أضحت البرازيل أكبر مُنتج ومُصدِر عالمى لها. حيث اتهم ماكرون نظيره البرازيلى بالتحريض على «إبادة البيئة»، فيما رد بولسونارو بوصم ماكرون بأنه «استعمارى جديد».
إذا كان المثل الانجليزى يقول: «أن تأتى متأخرا خير من ألا تأتى أبدا»، فإن الفرصة لا تزال سانحة أمام البشرية لإنقاذ الحياة المهددة على كوكبنا المائى. وإذا كانت قمة المناخ بجلاسكو، قد التزمت تقليص انبعاثات غازى الكربون والميثان، بينما تعهدت 100 دولة، بينها البرازيل، بالتعاون لحماية الغابات، يظل العالم فى مسيس الحاجة إلى بذل المزيد. فبموازاة الوفاء بالتعهدات، تبقى الضرورة الملحة لأنسنة الاقتصاد، عبر لجم الاندفاعة الصناعية المحمومة، وترشيد النزعة المجنونة للسيطرة على الطبيعة واعتصار مواردها. ههنا، تتجلى عبقرية الاقتصاد الأخضر، الذى يفسح المجال لطاقات متجددة، تتيح بدورها تحقيق المعادلة الصعبة، المتمثلة فى: ضمان استدامة التنمية والتطور الإنسانى، مع صيانة النظام البيئى، واستبقاء التنوع الحيوى.