الديكتاتور ضد الصناعة - عبد العظيم حماد - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 10:07 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الديكتاتور ضد الصناعة

نشر فى : الخميس 15 ديسمبر 2016 - 9:20 م | آخر تحديث : الخميس 15 ديسمبر 2016 - 9:20 م
الديكتاتورية كلها شر، وأكثرها شرا ما كان بلا مشروع سياسى سوى السلطة، ويزداد هذا النوع سوءا إذا كان الديكتاتور بلا كاريزما شخصية، لأنه ينشغل فقط بمصادرة أى تطور اجتماعى أو اقتصادى أو سياسى يهدد بقاءه،
هذه القاعدة تنطبق على مشكلة الصناعة فى مصر، والتى قلنا فى الأسبوع الماضى هنا إن السياسة تكرهها، وهذا وصف مخفف استخدمه المهندس محمد عبدالوهاب أحد وزراء الصناعة فى عصر مبارك، وأسباب الكراهية كلها نابعة من الطبيعة الديكتاتورية لنظام الحكم، وسوف نرى توا أنه كلما ضعفت «الكاريزما» كلما ازدادت كراهية الصناعة.

قد يتبادر إلى الأذهان أن هناك تناقضا بين هذا القول، وبين مشروع النهضة الصناعية فى عهد جمال عبدالناصر الذى كان ديكتاتورا بلا شك، ولكن مهلا، فكل الحكام الديكتاتوريين من طراز عبدالناصر حققوا نهضات صناعية جبارة فى بلدانهم، فهكذا فعل هتلر فى المانيا، وتوجو فى اليابان، وستالين فى الاتحاد السوفيتى، وفرانكو فى اسبانيا، وبارك فى كوريا الجنوبية، وسوهارتو فى اندونيسيا، وحتى بينوشيه فى شيلى، ولكن هذا الطراز من الحكام ليس هو القاعدة فى الديكتاتورية، بمعنى أنهم جميعا امتلكوا الكاريزما، والمشروع الذى يحظى بما يشبه الاجماع القومى (على الأقل فى بداية حكمهم)، وتوافر لهم الظرف التاريخى، وكل ذلك حصنهم ضد الخوف من التبعات الديمقراطية للتطور الصناعى، أى من حتمية مشاركة رأس المال ونقابات العمال فى السلطة والقرار فى الدول الرأسمالية، ومشاركة الطبقة العاملة فى الدول «الاشتراكية» ومع ذلك فقد أطاحت الديمقراطية الصناعية فى نهاية المطاف بمن وقف ضدها من هؤلاء، كحالة بارك فى كوريا الجنوبية، وحالة سوهارتو الاندونيسى، وحالة بينوشيه فى شيلى، وكانت الديمقراطية الصناعية هى البديل الآمن والناجح لهتلر فى ألمانيا، وتوجو فى اليابان بعد أن حطمت الهزيمة فى الحرب العالمية الثانية النظامين والبلدين، كما كانت هذه الديمقراطية هى البديل الآمن والناجح بعد وفاة فرانكو فى إسبانيا، إذ إن الرأسماليين الصناعيين والعمال والمهنيين هم القاعدة الاجتماعية للديمقراطية الصناعية.

نعود إلى الحالة المصرية، فنشير فى البداية إلى أن عداء عبدالناصر تركز على الرأسماليين الصناعيين، لاستكمال نظامه الشمولى فى أوائل ستينيات القرن الماضى، فحرم البلاد من تراكم الخبرة والادارة ورأس المال، ولكنه عوض ذلك بمشروع طموح لإقامة قطاع عام صناعى، كثيف العمالة وكثيف رأسمالية الدولة، وكانت صفاته الكاريزمية، والالتفاف الشعبى حول مشروعه تضمن له خضوع العمال، أو اندماجهم فى نظامه.

وخلفه أنور السادات، وكان علينا أن ننتظر حتى تخوض مصر حرب أكتوبر بقيادته، ليبدأ فصل جديد من العلاقة بين الديكتاتورية والصناعة.

لقد وفر انتصار أكتوبر للسادات شرعية هائلة بلا شك، ولكن ميوله اليمينية، وطبيعته الديكتاتورية، وقناعته بعداء قواعد نظام عبدالناصر له جعلته يعتقد أن تأمين سلطته يقتضى تصفية هذه القواعد، ولتحقيق هذا الهدف اتبع استراتيجيتين متوازيتين، الأولى هى اطلاق الحرية للجماعات الدينية فى الجامعة، ومساندة هذه الجماعات، لاضعاف الحركة الطلابية التى كانت يسارية أو قومية التوجهات، والثانية التى تتصل بموضوعنا هى الاهمال المتعمد لقلاع القطاع العام الصناعى، وتشويه سمعة هذا القطاع، بوسائل متعددة، منها اختيار قيادات غير مؤهلة، وغير مخلصة، وادماج أرباح الشركات بالكامل فى ميزانية الدولة، ثم لا يتبع ذلك تخصيص أية اعتمادات للاحلال والتجديد، والتوسع، لتضمر المصانع بالتدريج، ومن ثم تضمر قواعدها العمالية الكثيفة هى الأخرى، وفى هذا السياق جاء تصريحه الشهير بأن مصر بلد زراعى، وليست بلدا صناعيا، وقوله للمهندس «يحيى الملا» إنه لا يحب أن يسمع كلمة الصناعة.

لكن الموضوعية تقتضى أن نعترف أن السادات ربما كان يكره الصناعة كثيفة العمالة فقط، والتى يمكن أن تنبثق عنها تنظيمات نقابية قوية، وكان يعتقد – بناء على نصيحة أصدقائه الأمريكيين فى الأغلب – أن الصناعات المتوسطة والصغيرة هى الأنسب لمصر، ولنظامه، ومن هنا نشأت فكرة المدن الصناعية التى حاول النظام الساداتى عن طريقها تعويض ضمور القطاع العام الصناعى، فهى لن تكون كثيفة رأس المال والعمالة، ويسهل حرمانها من التنظيم النقابى، ولكن ما تحقق كان قليلا، فخسرنا القطاع العام، ولم نكسب صناعات متوسطة وصغيرة تستحق هذا الوصف.

يتصل بهذه الاستراتيجية المعادية للقطاع العام الصناعى، تغليب الانفتاح التجارى الاستهلاكى على كل أنواع النشاط الاقتصادى.

ويأتى حسنى مبارك، وتأتى معه الخصخصة، وبغض النظر عما شابها من فساد مالى ضخم، لأن هذا ليس موضوعنا، فإن سياسة الخصخصة لم تلتزم بما أعلن أنه الهدف منها، وهو تطوير وتحديث المصانع المبيعة، إذ إن ذلك لم يحدث أيضا، وكانت شركة المراجل البخارية ولاتزال هى المثال الصارخ على هذا العبث المدمر للصناعة الوطنية باسم الخصخصة، وفى الوقت نفسه تركت القلاع الصناعية الأخرى الباقية فى حوزة قطاع الأعمال العام للركود، وفساد الادارة، كما تركت دون احلال وتجديد للآلات.

وعلى سبيل المثال كانت شركة غزل المحلة حتى أوائل تسعينيات القرن الماضى لا تزال قادرة على تصدير ما قيمته 600 مليون جنيه بأسعار ذلك الوقت، ولكن جاء أحد أصدقاء العائلة الرئاسية من الولايات المتحدة، ليساند مشروع التوريث، فحصل على رخصة لاقامة مصانع للملابس الجاهزة «للتصدير» مستخدما غزولا وأقمشة مستوردة، وفقا لما يسمى بنظام الـ DRAW BACK، لكن منتجاته أغرقت السوق المصرية، ويجأر أصحاب مصانع النسيج المحلية، وعمال مصانع النسيج فى القطاع العام بالشكوى للحكومة وللصحف دون سميع أو مجيب، فتغلق المصانع، وتنهار صناعة الغزل والنسيج المصرية بالكامل.

قالوا إن هذه كلها صناعات تقليدية قليلة الابداع، ومحدودة القيمة المضافة، وأن الوقت قد حان لادخال الصناعات عالية التكنولوجيا الحديثة، لكن ما المانع من الجمع بين التقليدى الذى يغنينا عن الاستيراد بعملة صعبة، ويدر علينا عائد التصدير، وبين التكنولوجى المتقدم، وأين هى هذه الصناعات المتقدمة؟

اقرأوا هاتين القصتين

تعرفت فى برلين على الدكتور مهندس رضا نجيب (المصرى الأصل والتعليم) أحد أكبر خبراء العالم فى تصميم وتصنيع المحركات، وكان يرأس وقتها فريق خبراء المجموعة البافارية للسيارات، التى تمتلك أيضا شركة رولزرويس البريطانية منتجة محركات الطائرات، ومحركات الصواريخ لوكالة ناسا الأمريكية، وهو الخبير الذى ترأس فريق التحقيق فى حادثة انفجار صاروخ المكوك الفضائى الأمريكى تشالينجر بعد لحظات من اطلاقه فى ثمانينيات القرن الماضى.

هذا الرجل قدم نفسه للمرحوم الدكتور محمود مبارك سفير مصر فى ألمانيا حتى عام 2003 عارضا خدماته على البلاد، وقدمه السفير إلى كل وزير مصرى زار برلين، وعقد معه أحد هؤلاء الوزراء المهمين سلسلة اجتماعات مطولة هناك، ثم لا شىء بعد ذلك، والسؤال الذى حير رضا نجيب ولا يزال يحيرنى: هو إذا كنا لا نحتاج خبرة رضا العالمية فى محركات الصواريخ، فلماذا لم نأخذها لحل مشكلة مصر الأبدية فى صناعة بقية الأنواع من المحركات، أى مشكلة السبيكة الداخلية للمحرك التى لم ننجح فى صنعها قط، مع أن كل الدول التى بدأت معنا أو بعدنا نجحت فى حلها، أقصد كوريا والهند والصين وماليزيا وتركيا وإيران؟!

القصة الثانية بطلها الدكتور مهندس عبدالهادى أبو عقيلة (المصرى أيضا) والذى يطلقون عليه فى الولايات المتحدة حيث يعمل «أبو الروبوت»، فهو مصمم ومطور سلسلة الأجيال المتوالية من أجهزة الانسان الآلى أو الروبوت هناك، ومثلما فعل رضا نجيب وضع أبو عقيلة أيضا خبراته تحت طلب الحكومة المصرية، وقدم «ربوتا» بقيمة 3 ملايين دولار هدية إلى كلية الهندسة فى إحدى جامعاتنا العريقة، فوضع الروبوت فى المخازن، ومضت الأعوام، ولم يطلب أحد خبرة الرجل،

بالمناسبة الطائرات بدون طيار يقودها الروبوت، وذات مرة حلت إسرائيل مشكلة كبيرة فى علاقاتها بالولايات المتحدة بإدخال 36 تحسينا على طراز أمريكى من الطائرات بدون طيار.

حسنى مبارك كان الأقل فى الكاريزما مقارنة بعبدالناصر والسادات، وكان نظامه الأكثر فسادا، ومن ثم واصل كراهية الصناعة، وأضاف إلى الكراهية غنائم الخصخصة لرجاله، ولأشياع الوريث المتربص.

سيقول البعض: لكن هاتين القصتين لا تنطبق عليهما قاعدة كراهية الديكتاتورية غير الكاريزمية للصناعة، كثيفة العمالة وكثيفة رأس المال، والرد هو أنه تنطبق عليهما أسباب أخرى لكراهية الديكتاتورية للصناعة مثل الفساد البيروقراطى، وعجز المسئولين عن اتخاذ القرار انتظارا للموافقات العليا، وتفضيل البعض للاستيراد وعمولاته على التصنيع ومشقاته.

إن مصر بلد كثيفة السكان ومحدودة الموارد الطبيعية، مثلها مثل ألمانيا واليابان، وكما قال أحد الرؤساء الألمان إن ثروة بلاده لا توجد فى أرضها، ولكن توجد فى عقول أبنائها، التى تؤتى ثمارها فى الصناعة، فإن مصر لا تنقصها العقول لا فى الداخل، ولا من أبنائها فى الخارج، ولكن ينقصها إيمان السياسة بالصناعة.
عبد العظيم حماد رئيس تحرير جريدة الشروق السابق. كاتب صحفي مصري بارز ، وشغل عدة مناصب صحفية مرموقة على مدار تاريخه المهني.ولد عام 1950 ، وحصل على بكالوريوس العلوم السياسية ، وعمل كمحرر ومعلق سياسي منذ عام 1973 ، سواء في الإذاعة والتليفزيون أو في مجلة أكتوبر أو في جريدة الأهرام ، وكان مديرا لتحرير الأهرام الدولي في أوروبا ، وكبيرا لمراسلي الأهرام في منطقة وسط أوروبا ، وله مؤلفات وأبحاث وكتابان مترجمان ودراسات دولية متنوعة.