من منا احتفظ بهواية يمارسها بانتظام منذ الصغر حتى الآن؟ وهل منا من يذكر هواياته الصغيرة التى اعتاد أن يهرب إليها متى داهمه الملل وتاقت نفسه إلى تغيير روتين الحياة اليومى الذى تعوده واعتاد عليه.
الواقع أن من الهوايات ما يطلق النفس من إسارها ويعين الإنسان على احتمال الحياة بضغوطها ومشاكلها بل وعذابها وإحباطها فى أحيان كثيرة.
أهدتنى ابنتى هذا الأسبوع فكرة المقال بأن أرسلت لى مقالا طالعته على شبكة BBC يتحدث عن أهمية هواية الزراعة، بل ويحمل بشارة لمن يمارسها بأنهم أكثر الناس قدرة على مواجهة الضغوط النفسية بل وأن أعمارهم قد تمتد إلى المائة عام! هى تعرف أننى من هواة الزراعة والزرع.
المقالة تحكى عن نتائج دراسة أجراها صحفى متخصص Dan Buelten والذى زار خمسة أماكن متفرقة من العالم يطلق عليها المناطق الزرقاء (Blue Zones) يتشارك سكانها فى خصائص تجمعهم رغم بعد المسافات بينهم طول العمر، حتى إنهم يتعدون دائما الثمانين من أعمارهم إلى التسعين وربما المائة إلى جانب نمط من الحياة يعتمد على الحركة بانتظام وتناول أطعمة متنوعة من أصول نباتية كالخضراوات والفواكه الطازجة، وفقا لمحاصيل أراضيهم، وتجمعهم هواية الزراعة التى يمارسونها بانتظام وحب ورغبة مستمرة فى الحياة فى انطلاق وهواء نقى وشمس مشرقة.
أوكيناما فى اليابان، بنكويا فى كوستاريكا، أكاريا من اليونان، لوما ليندا فى كاليفورنيا، وأخيرا ساردينينا فى إيطاليا. تلك هى المناطق التى يطلق عليها الزرقاء فى العالم، يتمتع سكانها بطول العمر وصفاء العيشة فى الخلاء، وإن كانوا أيضا يكونون مجتمعات متماسكة دافئة عائليا.
فهم كما جاء فى وصف الصحفى الذى أمضى وقتا طويلا بينهم يحرصون على تناول عشائهم بصحبة أولادهم وأحفادهم كما لو كان كل مساء احتفالا بعيد ما أو مناسبة غالية.
الآن هل مازال على كوكب الأرض من يعتنق الطبيعة مذهبا ويعيش أيامه يتنفس نسيم الصباح ويعيش لحظات الصفاء والهدوء يحاور النبات ويغازل الزهور؟!
شردت وأنا أتخيل أننى انتقلت للحياة فى إحدى تلك المناطق الزرقاء ورأيت نفسى أشترى أشجار الورد التى زرعتها بنفسى وحولى أحفادى يلهون تحت شمس نهار من نهارات الشتاء يحاكون الزهور فى تفتحها وألوانها سرعان ما استرددت نفسى وحمدت الله كثيرا على ما أنا فيه، فلدى حديقة صغيرة وعدد لا نهائى من الأصص، بدأت براعم أبصال الشتاء تطل منها واعدة بألوان من البهجة أنتظرها بشغف.
ليس من الضرورى أن تنتقل للحياة فى المناطق الزرقاء إذا كنا بالفعل قادرين على إحياء تلك الروح فى مناطق تحيط بنا ولو كانت متناهية الصغر.
الواقع أننى أؤمن بالفعل أن رفقة النبات والائتناس بالزهر إنما هو عالم آخر مواز لوقائع عالم فرض علينا أن نعيشه قصير النهارات، صاخب الإيقاع شديد الزحام، لم يعد على الاطلاق بيئة صالحة لازدهار الأمانى أو تحقيق الأحلام.
بكل الصدق أدعو كل من يقرأ كلماتى اليوم أن يبدأ فى إعداد ولو أصيص واحد لنمو نبات أخضر أيا كان على أن يفتح له قلبه وعقله وأن يعتنى به ويرصد نموه فى كل صباح. وأن يتعلم كيف يعتنى به لتبدأ معه تجربة خاصة أبدا لن تؤدى لندم بل إلى بهجة تمتص ضغوط النفس وقسوة النهارات.
نعم.. هى نصيحة صديق لكنها أيضا نصيحة طبيب يعلم جيدا أن صحة البدن لا تستقيم إلا باتساق مع صحة النفس.