. يعتقد الكثيرون وخاصة بالخليج العربى أن الخلاف العربى الأمريكى الذى سيطفو على السطح سريعا بعد تولى الرئيس المنتخب جو بايدن السلطة فى 20 يناير القادم هو الخاص بإيران، باعتبار أن إدارة أوباما التى خدم فيها بايدن نائبا للرئيس تبنت سياسة الحوار المباشر مع إيران والتحفيز المحسوب مقابل وضع ضوابط على برنامجها النووى، على أمل أن يشجع ذلك إيران على تغيير سياساتها وتبنى نهج أقل حدة وعدوانية تجاه المجتمع الدولى وحلفاء أمريكا، من منطلق أن مخاطر هذه المجازفة أقل بكثير من تركها ترمح وتنمى قدراتها النووية.
. وزادت هذه المعتقدات والمخاوف مع التصريحات المتكررة للمرشح الرئاسى جو بايدن ومعاونيه عن أنهم يرحبون بإعادة إحياء الاتفاق النووى الإيرانى مع الدول النووية الخمس وألمانيا، وسلطت الأضواء على هذه القضية أيضا مع ما تردد بعد الانتخابات عن تفكير الرئيس دونالد ترامب فى توجيه ضربات عسكرية لإيران قبل تركه السلطة، وكذلك مع اغتيال العالم النووى الإيرانى محسن فخرى زادة، وتوجيه أصابع الاتهام إلى إسرائيل، ويربط العديد من المحللين الغربيين بين قرارات التطبيع العربى الإسرائيلى الأخيرة والرغبة فى خلق محور للتصدى لإيران، رغم أن وزير خارجية الإمارات الشيخ عبدالله بن زايد ذكر صراحة أن تلك الخطوات غير موجهة ضد أحد.
. هذا ومقابل التوجة الإمريكى المتجدد هناك أيضا رغبة لدى عدد من السياسيين الإيرانيين فى العودة إلى تفهما حول الاتفاق النووى مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولى، وقد حذر سياسيون إيرانيون كبار من مغبة الانزلاق إلى مواقف خاطئة ومضرة بعد طرح بعض الاقتراحات التشريعية الإيرانية تضع عقبات عثرة أمام أى توافق جديد.
وإنما لن يكون طريق العودة إلى تفعيل الاتفاق النووى ميسرا على المدى القصير حتى إذا توافرت النوايا الحسنة، لأن الولايات المتحدة انسحبت من الاتفاق من جانب واحد بقرار رئاسى، لذا ينتظر أنت تطالب إيران بأن يتم إقرار أى اتفاق جديد من الكونجرس الأمريكى أيضا، ليكون له صفة الثبات والدوام، وهو أمر صعب المنال إذا غابت عنه الأغلبية الديمقراطية، كما أن رد الفعل الإيرانى للانسحاب الأمريكى واستمرار العقوبات كان الإسراع فى زيادتها لمعدلات تخصيب اليورانيوم، وهو ما جعل مخزونها يتجاوز الحدود المسموحة وفقا للاتفاق، وخاصة بالنسبة للمستويات عالية التخصيب، التى يمكن أن تحول لأغراض عسكرية.
وسيكون من الصعب على إدارة بايدن العودة إلى الاتفاق قبل أن تتراجع إيران عن تخصيب اليورانيوم وتتنازل عن مخزونها الذى يتجاوز الحدود السابق الاتفاق عليها، وهو مطلب بقدر سلامته قد يصعب تحقيقه فى ضوء أن الولايات المتحدة هى من بادرت بالانسحاب من الاتفاق، وأن إيران أمامها عام انتخابى حاسم فى المستقبل القريب سوف يشهد المزايدة والهجوم على التيار المعتدل فى المنظومة الإيرانية، بما فيهم الداعمون للاتفاق النووى، وكان من أهم المستهدفين لهذا الهجوم جواد ظريف وزير الخارجية والمفوض الإيرانى الرئيسى، والتى شهدت شعبيته تدهورا حادا فى الأشهر الأخيرة، بعدما كان يتردد أنه ممن له فرص انتخابية قوية بعد إنجاز الاتفاق مباشرة.
ومع هذا وبصرف النظر عن نجاح الولايات المتحدة وإيران فى العودة إلى الاتفاق النووى من عدمه، أعتقد أنه على الجميع توقع العودة على الأقل جزئيا إلى سياسة أمريكية أقل حدة وضغطا على إيران، وهو ما يقلق الكثيرون، قلق فى محله من بعض الزوايا، وإنما الأخطر من ذلك هو أن يعجزنا القلق من التخطيط المبكر فى كيفية التعامل مع التحديات القادمة.
من هذا المنطلق لعله من المناسب التفكير فى كيفية استغلال الاتفاق النووى الإيرانى للحد من المخاطر المحتملة التى قد تواجه علاقات بعض الدول مع الولايات المتحدة، وكذلك علاقاتها مع إيران إن أمكن ذلك، فضلا عن توظيفه لدعم جهودنا لضبط الأمن والاستقرار فى الشرق الأوسط بصفة عامة، وقد تكون نقطة البداية فى ذلك هى معالجة نقاط الضعف فى الاتفاق النووى من الزاوية العربية، ألا وهى:
عدم تضمين الاتفاق التزامات من جانب إيران لوقف سياساتها الهيمنية فى الشرق الأوسط من المشرق إلى الخليج، علما أن جون كيرى كان قد أبلغنى عندما تزاملنا كوزراء لخارجية أمريكا ومصر أنه كان مخططا التفاوض على خطوات سياسية إقليمية، وأكدت له حينذاك أن هذا المخطط كان يجب أن يكون جزءا أساسيا فى الاتفاق، وليس مرحلة مستقبلية له، خاصة وأن الاتفاق يدعم مكانة إيران سياسيا، ويوفر لها إمكانيات مادية ضخمة تدعم قدراتها على الترويج لسياساتها الإقليمية وتسند سياساتها العدوانية الإقليمية.
إن الاتفاق تضمن نصوصا تسمح لإيران بالتغاضى عن بعض التزاماتها بعد فترة زمنية فى حدود 15 عاما، وهى تسمى بنصوص «غروب الاتفاقيات»، بما يعنى أنها تستطيع استئناف برامجها النووية بعدها، وبعد أن تكون قد حصلت على شرعية دولية واسعة وفرص اقتصادية واسعة للتنمية.
يتعامل الاتفاق مع مشكلة الانتشار النووى العسكرى فى الشرق الأوسط على أنها قضية تتعلق بتهديدات للدول الكبرى دوليا وإسرائيل إقليميا، دون مراعاة الأمن العربى بالقدر الكافى، ويجب عدم إغفال أن إيران وإسرائيل وأمريكا تعاونوا خلال فترة الخومينى لنقل الأسلحة إلى الثوار فى أمريكا اللاتينية.
يغفل الاتفاق أيضا أن الأسلحة النووية لها طابع استراتيجى واسعة النطاق، وأن التعامل معها يجب أن يكون على المستوى الإقليمى بأكمله، من حيث المدة والمساحة والنطاق ودون استثناءات لأحد، لمنع ظهور مخاطر جديدة تفرض سباق تسلح مكلف ومدمر على الكل، وغنى عن التنويه أن الاستثناء الوحيد المطروح فى الشرق الأوسط مع تنفيذ الاتفاق النووى مع إيران كان سيكون للبرنامج النووى الإسرائيلى.
. هذا وهناك ملاحظات أضافية يجب أن تؤخذ فى الاعتبار عربيا، أولها أن العقيدة السياسية الإيرانية تتبنى على قناعة مركزية بأنها دولة مستهدفة فى المقام الأول من الولايات المتحدة وإسرائيل، ومن ثم تسعى دائما إلى إبعاد الصدامات عن الحدود والأراضى الإيرانية، وهو ما يجعلها تنتشر إقليميا.
ومن الملفت أيضا أن الولايات المتحدة هى الدولة التى تحظى بالاهتمام الرئيسى فى الحسابات الإيرانية، بغية إخراجها من معادلة الخليج العربى لضمان التفوق الأمنى والعسكرى الإيرانى، ومن ناحية أخرى إذا توافرت الظروف للتوصل إلى مهادنة مع الولايات المتحدة نظرا لقوتها ونفوذها عبر العالم، لذا تفضل إيران التفاوض مع الولايات المتحدة بشكل مستقل ومنفرد، دون أطراف دولية أو إقليمية عربية، كما تفاوضت معها فى عمان دون الأطراف الأربعة الآخرين خلال بلورة الاتفاق النووى.
لذا فالكثير من المبادرات الإيرانية تستهدف إجراء حوارات إيرانية خليجية بعيدة عن الولايات المتحدة بل حصريا حتى بين دول الشرق الأوسط، خاصة بالنسبة للممرات المائية، وإنما قصرها على الدول الخليجى فقط دون غيرها من الدول العربية يحمل فى طياته مخاطر كثيرة على الأطراف العربية.
سبق أن أشرت مرارا إلى أننى لا أرى السلام والأمان فى الشرق الأوسط فى غياب تفاهمات عربية مع كل من تركيا وإيران وإسرائيل، مؤكدا فى نفس الوقت على الحاجة إلى إجراءات بناء ثقة تمهيدية لأى حوارات لغياب الأرضية المناسبة لهذه التفاهمات حاليا، فى ضوء سياسات الدول الثلاثة الهيمنة وغير المشروعة، وأتبنى دوما أيضا منهجا داعما ودافعا إلى عدم المبالغة فى الاعتماد على الغير، منهجا داعيا للمبادرة وعدم قصر المواقف العربية على رد الفعل لتصرفات الغير، ومن ثم أعتقد أن تأجيل أى تحرك عربى حول الاتفاق النووى الإيرانى إلى ما بعد الانتخابات الإيرانية ليس هو الخيار المناسب.
ونظرا لحساسية وتوتر بعض العلاقات الإقليمية أفضل أن تبادر أطراف عربية من خارج الخليج بخدم المبادرة لطرح أفكار فى هذا الخصوص بعد تشاورها مع الأشقاء العرب بالخليج، وذلك حول؛
* خطوات متدرجة مطلوبة من إيران وكذلك من إسرائيل وتركيا لتهدئة الأجواء فى علاقاتهم مع الدول العربية، وتحديدا بالنسبة للمسائل الأمنية، بما يرسخ مبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية للغير، ويشمل ضمانات لكبح جماح أى محاولات للهيمة الإقليمية.
* الأوضاع والترتيبات الأمنية الإقليمية فى الشرق الأوسط عامة، بما فى ذلك الخليج العربى وإنما ليس قاصرا عليه، وهنا من المفيد بلورة إعلان بالمبادئ التى تحكم ذلك سياسيا وأمنيا واقتصاديا، علما أن جهدا سبق وبذل فى هذه السبيل فى إطار لجنة الحد من التسلح لمؤتمر مدريد للسلام فى منتصف التسعينيات.
* كيفية الاستفادة من العناصر الإيجابية فى الاتفاق النووى، وأهمها منع الانتشار النووى، وذلك بالسعى لخلق منطقة خالية من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى فى الشرق الأوسط بأكمله دون استثناء وتشمل الدول العربية وإيران وإسرائيل.
* معالجة القصور التى وردت فى الاتفاق النووى، فبالإضافة إلى تطبيقها على مختلف دول المنطقة يجب أن تكون ممتدة ودائمة، حتى تحظى المصالح العربية بمكانها المشروع فى تشكيل الفكر والطرح المستقبلى حول أجندة الأمن الإقليمى فى الشرق الأوسط.
وختاما أقترح أن تعقد كل هذه الجهود الإقليمية والثنائية تحت وصاية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لترسخ فيها مبادئ وأحكام القانون فى الأمن الدولى والإقليمى، ويمكن للمجلس أن يشكل جهازا خاصا للإشراف على هذه المفاوضات، أو أن يعين لها مبعوثا خاصا، علما بأنه يتوقع أن تحتاج لدبلوماسية مكثفة وممتدة، مباشرة وغير مباشرة، تنتهى إلى خطوات متدرجة محددة وأخرى عامة وشاملة، وإذا نجحت رغم كل الصعاب لعلها تضع البذرة الأولى لنظام أمن جماعى إقليمى مستقبلا، تحكمه مبادئ جامعة، ويشمل آلية للتصدى والسيطرة على الأزمات، وترتيبات تفاوضية لحل الخلافات، وتمهد لمجالات للتعاون تسهم فى بناء مستقبل أفضل وأمن للجميع.