المُصادَفة ومَفاتيح الاستشراف - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:38 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المُصادَفة ومَفاتيح الاستشراف

نشر فى : الجمعة 16 مارس 2018 - 10:20 م | آخر تحديث : الجمعة 16 مارس 2018 - 10:20 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب «الصادق الفقيه» يتناول فيه تطور العديد من المفاهيم؛ من العهد الإغريقى القديم حتى العصر الحديث، من أرسطو إلى محمود أمين العالِم، ومحمد باقر الصدر. يبدأ بتناوُل ثلاثة عناصر خاصة؛ أولها، «الفُرصة»، و«الحظ»، و«العشوائية»، والحديث عن أن بعض الثقافات تفرق بين كل مصطلح من هذه المصطلحات، فى حين أن هناك ثقافات أخرى تستخدم كل هذه المطلحات بنفس المعنى.
يستهل الكاتب حديثه بأن الأطروحات الفلسفية المعروفة تقترح أن الفكرة الأساسية للارتباط الوثيق بين «المُصادَفة» و«الفُرصة» و«الحظ»، وما يُخالطها من آليات العِلل والأسباب، ومترتبات «الضرورة» و«الحَتمية»، تتعلق بالفرصة المرغوبة، لدرجة أنه قد يبدو، فى الواقع، القول إن هذا الشىء حدث بالمُصادَفة يقترب من أن يكون مُرادفا كافيا فى اللغة العادية للفرصة المقصودة، أو الحظ المتوقَع. الأمر الذى يعنى أنه يُمكننا أن نحاول التنبؤ بما ستكون عليه النتيجة المُرتجاة من أى مُشارَكة نقصدها.

على الرغم من توافر أدلة كثيرة على حدوث «المُصادَفة»، واستشعار الحدث لمآلِ ما يُرَتِبُه الحظ فيها، فإن العديد من الفلاسفة ينكرون أن «الفُرصة» الحقيقية مُلازِمة لهذا الترتيب، حتى ولو كانت تعنى، أى المُصادَفة، فى كتابات بعضهم ما هو متميز، أو تلك المُفاجَأة، التى تحدث من دون سببٍ محدد ومعروف، أو بما يجعلها تتناقض مع كل نظرية حتمية تقايسها فروض الضرورة. ففى اللغة اليومية، يبدو أن استخدام كلمات مثل «الفرصة»، و«المُصادَفة »، و«الحظ»، أو «العشوائية» تتداخل بقوة. فى الواقع، فإن بعض اللغات، مثل الألمانية، تُعجم كل هذه المفردات فى كلمة واحدة؛ هى «زُفال» وفى لغات وثقافات أخرى، هناك فصلٌ واضح بين الأحداث المُفضية إلى المُصادَفة، مع دلالاتٍ إيجابية موحية لنتائجها، مثل، «الحظ»، و«الفُرصة»، غير أن بعضا ممَن يعانون من سوء الطالع لا يرون فى المُصادَفة إلا حقيقتها العشوائية، وتنقلب معهم هذه المُصادَفة إلى مفردات سلبية؛ مثل، «حادث»، و«خطر» جسيم.

***

فى هذه المقالة، يحاول الكاتب تقديم قراءة مُستفسِرة يَرسم من خلالها الخطوط الرئيسة لتطور العديد من هذه المفاهيم؛ من العهد الإغريقى القديم حتى العصر الحديث، أو على نحو أدق، من ديموكريتوس، وأرسطو، إلى محمود أمين العالِم، ومحمد باقر الصدر. يبدأها بتناوُل ثلاثة عناصر خاصة؛ أولها، «الفُرصة»، و«الحظ»، و«العشوائية»، وما إلى ذلك، التى تُسْتَدعى فى بعض الحالات كتفسيراتٍ للأحداث. ثانيها، يُصْبِح معنى هذه المصطلحات واضحا فقط عندما يفهم المرء أى البدائل يُمكن استبعادها. وأخيرا، فمن الواضح أن نرى كيف أنه، بعد استبعادٍ صارم لـ«الفُرصة»، أو «العشوائية» من المَجال العِلمى للشرح فى فترة تاريخية مبكرة، تمت استعادتها إلى المجد الكامل فى القرنَين التاسع عشر والعشرين.

الحديث عن وجود المُصادَفة فى حياتنا لا يعنى مطلقا نسبة وجودنا إليها، ولا ترقى محاولات تعريفها لأن تُؤخذ دليلا على عدم وجود الإرادة والحكمة والقوة والعِلم، الذى هو للخالِق سبحانه، الذى يَعلم ولا نَعلم، وهو الذى خَلَقَ كُل شىءٍ بِقَدَر، «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلَا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَا يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَةٍ فِى ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَا فِى كِتَابٍ مُبِيْنٍ»(سورة الأنعام ــ الآية 59). لذا، فقد حَضَ القرآن الكريم على النَظر والتأمل والتفكر والتدبر والاجتهاد فى فهم الظواهر، ترسيخا للإيمان، لا نقضا له.

إن هذا الفهم يُحِيلُنا إلى سؤال تَسْهُل إجابته: هل تُخلق الفُرصة، أو تُكتشف؟ إذ إن كل سعى إنسانى يستهدف اغتنام ما يتوفر عليه من فرص، أو يناله من حظ، أو يتطلع إليه من رجاءات الخير. فمن أجل اكتشاف الفُرصة فى نظامٍ قائم، ينبغى، أولا، أن نكون قادرين على التعرف إليها، والطريق إلى ذلك إما أن يَمُر من خلال التعليم، واستيعاب نمط الظروف، أو الصفات، أو التنبؤ، الذى يستصحب النَظر والتأمل والتفكر والتدبر والاجتهاد، أو هو فى الواقع قيام المرء بإنشاء نمط استشرافٍ يتناسب مع جدية سعيه، يبنى على تراكُم المعرفة وقوة الحدث، بلوغا للهدف المنشود.

فالمُصادَفة، أو الضرورة، فى بعض تعاريفهما، هُما متعلقان بفكرة الترابط بين طائفة من أنظمة العِلل والمعلولات، التى يتحقق كلٌ منها فى سلسلتها الخاصة مستقلة عن الأخرى. ويظهر هنا أن كلمة المُصادَفة ليست مُنقطعة عن العلاقة مع الحقيقة الخارجية للضرورة، إنما تعبِر عن مفهومٍ له تمثلاته فى الظواهر المُلاحَظة، وله تأثيره وفاعليته، الذى يتضح فى ملكوت الخلق. وقد كان أرسطو أول من خَرَجَ المُصادَفة على ثلاث حالات؛ أولها، التقاء عشوائى بين حادثَين؛ وثانيها، حضورٌ مُتزامن لصفتَين مستقلتين فى موضوعٍ واحد؛ والثالثة، حالة انتساب صفة مُمكن إلى موضوع، من دون أن نتبين منها أى دلالة للقصد والتدبير.
***
إذا اعترفنا أن بعض الأمور لا تخضع لمنطق الأسباب «الظرفية»، أو «الضرورة»، فنحن يُمكن أن نَعْقِلهَا ونُعَلِقهَا بِعلاقةٍ سببية مثالية كافية لتبيان تحقُق «الحظ»، من دون الحاجة إلى اعتماد على الشروط المادية الحتمية الصارِمة. وهذا يعنى اعتماد تطوير القدرة الكاملة على التنبؤ الحصيف بالأحداث، التى تُبْقِى على إمكانية قراءة المستقبل بالحدس المُفعم بالأمل، على الرغم من أن الحَدس والمُصادَفة للبعض هُما مجرد حدث من دون سبب، وإن قال بهما المنجمون فقد كذبوا.

ومع هذا، فإن استحضار عدد من التصورات الفلسفية فى فهمنا لكلٍ من الفرصة والعشوائية يفتح إمكانية تَبَصُر أن ردْم الهوة بينهما سهلة، فى الحالتَين العادية والعلمية. وتزيل طريقة الفهْم هذه الالتباس العارِض بين المُصادَفة والحظ، الذى من شأنه أن يُناقِض الحقيقة المألوفة للفُرصة، والذى هو مضلِل تماما لتوقعاتنا. وقد يكون هذا الاستحضار لهذه التصورات مجرد محاولة لتوضيح الفروق بين المُصادَفة والعشوائية، فضلا عن إدراك السياقات، التى تتداخل فى تعريف الفرصة.
لهذا، فإن مفاهيم الضرورة والإمكانية قابلة للتجزئة؛ مثل قول إن شيئا هو بمثابة الضرورة يعنى القول إن نَفيه غير مُمكن، أو كأن أقول إن شيئا ما مُمكن، هو كالقول إن نفيه ليس ضروريا؛ أو أن نقول إن الكائنَ يجب أن تكون له خاصية معينة، هو كالقول إنه لا يُمكن أن يَفتقر إليها؛ وأن نقول إن الكائن يُمكن أن يكون له ملكات معينة، هو كالقول إنه ليس هو الحال الذى يجب أن يفتقر إليه. من هنا، يمكن التمييز بين الخصائص الأساسية لـ«الضرورة»، مقابل الخصائص العرضية لـ«المُصادَفة»، التى جرى تعريفها بطُرقٍ مختلفة.

بيد أن مفهوم المُصادَفة، وفقا لأوجستان كورنو الذى يُعتبر أول مَن صاغ نظرية موضوعية خالِصة للمُصادَفة فى العصر الحديث، أخذ فى البروز أكثر، فى سياقات الفكر الفلسفى، عندما زادت موضوعيتنا فى مُواجَهة الواقع الخارجى. إذ أصبح من المهم النَظر إلى أن المُصادَفة هى الموضوع، الذى يتجنبه العِلم، لأنها لا تخضع لتحديد القانون، وتخفى قيمتها الموضوعية عنه، عكس الضرورة، التى يُمكن أن تُصاغ فى قانون.

***

ويضيف الكاتب أن محمود أمين العَالِم بين فى كتابه «فلسفة المُصادَفة»، وبعد انقلابه المادى على مثاليته الأولى، أن المُصادَفة تكاد تكون مجهولة تماما لدى البدائيين، الذين أقاموا نوعا من الترابط والتماسك بين الوجودَين الطبيعى والإنسانى. فالمُصادَفة عند العَالِم ليست إلا علة وهمية ابتدعها جهلنا. لذلك، فإن المُصادَفة تختفى وتتراجَع كلما ازدادت واتسعت معرفتنا. فالمُصادَفة، بحسب هذا التعريف المادى، كلمة لا توجد إلا فينا، وهى لا تعدو أن تكون أثرا نفسيا ناتِجا عن جهلنا بالعِلل الحقيقية.
من جهته، يقول السيد محمد باقر الصدر إنه من غير الصحيح أن نعتبر «المُصادَفة» نقطة فى مقابل «الضرورة»، أو «اللزوم» بدلا عن الحتمية؛ على اعتبار أن فرضيتهما، أى الضرورة واللزوم، ليست هى الفرضية الوحيدة المُحتمَلة فى مقابل هذه المُصادَفة. بل نقول هنا بالفرضية الأخرى المُحتمَلة فى مقابل المُصادَفة، وهى الفُرصة، حتى لو لم تكُن هناك مسلمات منطقية لوجود علاقة موضوعية بينهما. فالمُصادَفة، كما يعتقد الصدر، تُمثل نقطة فى مقابل التفسير المُشترك، وليس نقطة فى مقابل الضرورة.

إن اعتماد أى من الأطروحات، التى تقدَم ذكرها، كمسلمة، أمرٌ قد لا يتوافق عليه كل المعنيين بالبحث الفلسفى، ولكن ربط المُصادَفة بالفُرصة، وجعْلهما مسألة مألوفة، يُشكل الأساس لنجاح الحِجج، التى قُدمت فى كل، أو بعض، هذه الأمثلة. أما إذا افترضنا أن استنتاجات هذه الحجج ضعيفة، أو غير قابلة للتصديق، فإن ذلك سيضع الكثير من الشك فى نظريات مُعتمَدة بالفعل فى مساقات البحث العِلمى المُختلفة.

النص الأصلى

التعليقات