يلاحظ من يتابع الغليان العربى بدرجاته المختلفة أن الشعوب العربية ركزت مطالبها على أوضاعها الداخلية، ولم تثر القضايا الخارجية حتى الإقليمية منها، ومع هذا كان لهذا الغليان، وخاصة بالنسبة لثورتى تونس ومصر، مردود سريع بالنسبة للعلاقات الخارجية لتلك الدول.
ولقد أشرت منذ اسابيع إلى أن الثورة المصرية أعادت لمصر «الريادة الحضارية» على المستوى الإقليمى، وحظت بإعجاب كبير لدى العالم الخارجى وهو إنجاز بالغ الأهمية ما زلنا نحتفظ به، بالرغم من أن استمرار التوترات المصرية ولجوء البعض إلى العنف يؤثر سلبا على صورتنا الخارجية، وانما هناك دلالات تستحق التصحيح الدقيق والمتابعة بجدية حتى لا نبالغ فى التفاؤل غير المبرر، او نفرط فى فرصة يجب استغلالها واستثمارها.
ينظم مركز «بروكنجز» الأمريكى بالاشتراك مع الحكومة القطرية مؤتمرا سنويا بعنوان «الولايات المتحده والعالم الإسلامى»، بدأت فاعلياته فى 12 أبريل بالعاصمة الأمريكية واشنطن، وقد شاركت فى الاجتماع بكلمة عن التجربة المصرية وانعكاساتها على التوازنات الإقليمية والسياسية الخارجية فى الشرق الأوسط، فضلا عن اشتراكى خلال وجودى بواشنطن فى مؤتمر للمجلس الثلاثى وهو مجلس من الخبراء الدوليين الأمريكيين والآسيويين والأوروبيين.
لا أبالغ إذا قلت إننى لم أكن أتصور أبدا أن أسمع ما سمعته فى العاصمة الامريكية، رغم سابق خدمتى فيها سفيرا لمصر لمدة 9 سنوات، وعملى قبل ذلك بنيويورك فى البعثة المصرية للأمم المتحدة، فلقد اجمع المتحدثون الأمريكيون بمختلف توجهاتهم على ان العالم الخارجى عليه احترام مطالب الرأى العام العربى، وأن على إسرائيل «التحرك سعيا للسلام الشامل العربى الإسرائيلى»، بمواقف جادة نحو اقامة دولة فلسطينية بجوار اسرائيل، وحذر المجتمعون إسرائيل من عدم التحرك استنادا إلى قوتها الفارقة والضعف الفلسطينى المؤسف، باعتبار ان القضية الفلسطينية قضية عربية اقليمية، وتحظى باهتمام شعبى واسع، وأن التوجه الديمقراطى العربى سيدعم من قوة العرب إقليميا، رغم انشغال اغلب الشعوب العربية فى الأشهر المقبلة بأوضاعها الداخلية.
وأشار رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ السناتور جون كيرى العائد حديثا من القاهرة، والذى يحمل كل تقدير للتطور المصرى، أشار إلى أنه خرج من زيارته لإسرائيل بانطباع ان رئيس الوزراء الإسرائيلى يقدر تماما طبيعة التغيرات الذى يشهدها العالم العربى، وان لم تعكس ملاحظات كيرى ثقة كبيرة فى أن نتنياهو سيقدم بالفعل على طرح مواقف تساعد على حل فلسطينى اسرائيلى مقبول، ونوه كيرى أن الولايات المتحدة، على لسان رئيسها أوباما عاقدة العزم على طرح افكار ومواقف أمريكية جديدة فى الأيام القادمة استنادا لما سيتخذه نتنياهو من مواقف فى محاولة لتشجيعه أو الضغط عليه لاتخاذ مواقف اكثر ايجابية.
ولقد أثارت ملاحظات كيرى رد فعل قويا وصريحا من «زبغنيو بريجــنسكى» مستشار الأمن القومى الأمريكى للرئيس كارتر، والذى تحدث باستهجان عن اكتفاء الولايات المتحدة ببيانات عامة تدعو للسلام، دون اتخاذ خطوات ملموسة مما أدى إلى انحصار النفوذ الأمريكى بالشرق الأوسط.
وطالب «بريجنسكى» أوباما بأن يعلن موقفا أمريكيا صريحا ومحددا، يتلخص فى اربعة مبادئ رئيسية تحكم حل النزاع الفلسطينى الإسرائيلى، وهى عدم تطبيق مبدأ حق العودة للفلسطينيين بشكل مطلق باعتبار ان اسرائيل لا يمكن ان تقبل بذلك، واقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية رغم تحفظات اسرائيل، واقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 مع امكانية تبادل متساوٍ للأراضى بما لايتجاوز 3 % واخيرا إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح حتى تطمئن اسرائيل على أمنها.
وكانت التوجهات الأمريكية خلال المؤتمر تتوافق حول اهمية تحرك اسرائيل وبجدية، وأكد جميع المتحدثين على ان الدعوة العربية للديمقراطية سترفع الراية الفلسطينية عربيا واقليميا بدلا من ان تكون على حسابها كما كان المحافظون الجدد يتوقعون خلال ولاية الرئيس بوش الابن، وكما دفعت اسرائيل مرارا فى الماضى، بدعوى أن الحكومات العربية تزايد بالقضية الفلسطينية حتى لا تضطر إلى التعامل مع مشاكلها الوطنية الحقيقية. وهناك مؤشرات أن رئيس وزراء اسرائيل «بنيامين نتنياهو» سيستغل مناسبة زيارته للولايات المتحدة فى بداية الشهر القادم لطرح مبادرة اسرائيلية نحو اقامة دولة فلسطينية بحدود مؤقتة وانسحاب اسرائيل من بعض اراضى الضفة الغربية لنهر الأردن، وتحويلها من مناطق خاضعة للسيطرة الإسرائيلية إلى مناطق تحت السيطرة الفلسطينية مع احتفاظ اسرائيل بالمسئولية الأمنية على أغلبها حتى تقطع إسرائيل الطريق على المحاولات الفلسطينية للانضمام إلى الأمم المتحده كدولة فى سبتمبر القادم. وهى نفس المنهجية التى اتبعها «آريل شارون» عند طرح الانسحاب من غزه والسيطرة على حدودها الخارجية، كوسيلة لتجنب الضغط الدولى لتنفيذ خريطة الطريق، وذلك فى نفس الوقت الذى قامت فيه إسرائيل بتدعيم وجودها وتوسيع المستوطنات فى الضفه الغربية.
وما اقصده بكل ذلك، أن الصحوة العربية أو الغليان العربى، والثورة الجارية فى مصر تحديدا، رغم عدم اكتمالها أعادت المصداقية والقوة للصوت والمطالب العربية، وجعلت الولايات المتحدة وإسرائيل تقدران أنه لا يمكن الاستمرار فى تجاهل هذه الشعوب وان عليهما الاستجابة لهذه المطالب أو المناورة سياسيا لمواجهة تداعيات المصداقية العربية الجديدة، وهو انجاز عربى مهم فى حد ذاته، وان كان انجازا محددا من حيث المضمون وقد يكون إنجازا قصير الأجل كذلك، إذا لم نبن عليه ونستغله وإذا استعجلنا فى قبول بعض المبادرات الجزئية أو الشكلية من جانب اسرائيل أو الولايات المتحدة.
وقد لفت نظرى ما ذكره «عوزى أراد» مستشار الامن القومى الاسرائيلى السابق حيث أعرب عن أسفه وقلقه الشديد مما يحصل فى مصر، وغياب الرئيس مبارك واللواء عمر سليمان عن الساحة السياسية المصرية، باعتبارهما أقوى مؤيدى اتفاقية السلام المصرية الإسرائلية، مما يضع اتفاقية السلام المصرية الاسرائيلية فى محك صعب، وهجومه الشديد على كل من الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى والدكتور محمد البرادعى، واستطرد «أراد» فى تحذير الحكومة الإسرائيلية من الإسراع فى تقديم تنازلات موضوعية، فى ظل الساحة العربية المتقلبة بما قد يزيد من المخاطر على الامن الاسرائيلى، مثلما حدث بعد الانسحاب الاسرائيلى الأحادى من غزة.
وهذا ما جعلنى أعقب على كلامه بأن المجتمع المصرى مؤمن بالسلام العربى الإسرائيلى الشامل بما فى ذلك المصرى الاسرائيلى، والمشكلة ليست فى وجود أو غياب مسئولين مصريين وانما فى تعنت اسرائيل وتلكؤها دائما باسباب مختلفة لعدم التحرك او لاتخاذ اجراءات أحادية، وطالبته بعدم اضاعة الوقت أو الجهد فى التباكى على الماضى، والتركيز على كيفية التعامل بإيجابية مع المرحلة الجديدة.
والخلاصة هى ان العالم أيقن اخيرا أن الشعوب العربية لن تسكت على الغبن كان ذلك داخليا او خارجيا، وهو ما يجب استثماره لتحقيق المصالح المصرية العربية، انما وللأسف فى نفس الوقت لا أرى فى الساحة الإسرائيلية أو حتى الأمريكية، ونحن على مشارف انتخابات أمريكية جديدة عام 2012، أى استعداد حقيقى لتحريك عجلة السلام تجاه الحل الحاسم، فأغلب ما يمكن توقعه اقتراحات واجراءات جزئية ومؤقته، مما يجعلنى أوصى بالتركيز على دعم الحق العربى وترسيخه، إلى حين تهيئة ظروف افضل للتفاوض العربى الإسرائيلى وذلك من خلال الخطوات التالية:
1 ــ التحرك بالأمم المتحدة لقبول فلسطين كعضو عامل بالمنظمة أسوة بالدول الأخرى.
2 ــ تنشيط الدبلوماسية العربية الدولية بالأمم المتحدة لتأكيد عدم شرعية سياسة الاستيطان الإسرائيلى وباعتبار القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية.
3 ــ العمل على تحقيق المصالحه الفلسطينية بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس والمنظمات الأخرى على توافق فلسطينى شرعى داخلى وتأييد للمبادرة العربية للسلام خارجيا.
4 ــ إعادة إحياء المشاورات العربية حول السلام العربى الاسرائيلى على المستوى الخماسى بين مصر وسوريا والسعودية والأردن وفلسطين بما يدعم من فرص تحقيق الهدف المنشود وهو السلام العربى الإسرائيلى الشامل.
إذا تحقق ذلك خلال عامى 2011 و2012، واستقرت الأمور العربية على قاعدة توافق افضل بين الشعوب العربية وحكامها، سنكون قد وفرنا ارضية أفضل للمفاوض العربى أو الفلسطينى للدخول فى مفاوضات مع إسرائيل اذا كانت راغبة فى ذلك عقب انتهاء الانتخابات الأمريكية الرئاسية والكونجرس العام المقبل.