مطار القاهرة - جميل مطر - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 7:04 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مطار القاهرة

نشر فى : الأربعاء 16 أبريل 2014 - 7:45 ص | آخر تحديث : الأربعاء 16 أبريل 2014 - 7:45 ص

كتبت قبل سنوات عن المطارات كرمز حى من رموز «العولمة». قارنت بين مطارات عديدة ووجدت الشبه بينها يكاد يصل إلى درجة التطابق. كل مطارات العالم، أو أغلبها، نظيفة وإن كان بعضها يقع على بعد أمتار من أحياء متدهورة، أو على نهاية طرق تكومت فيها النفاية. مطارات العالم، أو أغلبها، تكاد تتوحد فى شكل أبنيتها وأنظمة استقبال المسافرين والعائدين وإصدار بطاقات السفر ووزن الحقائب. يرتدى جميع موظفى المطارات ملابس رسمية متشابهة ويستخدمون فى تعاملاتهم مع زملائهم فى المطارات الأخرى لغة واحدة ومفاهيم ثابتة لا تتغير بتغير الثقافة والأعراف الوطنية. ثقافة العولمة كانت سائدة فى جميع المطارات ولم يكن مسموحا لثقافات فرعية أن تزاحمها فى رمز من رموزها، وكان المطار أحد أهم هذه الرموز.

•••

كان مطار القاهرة أحد إنجازات «العولمة» فى مصر. وكنت بما كتبت فى ذلك الحين اشيد بما يمكن أن يفعله الموظف المصرى إذا وضعته الظروف فى سياق منضبط ومتحضر وخلف قيادة مستنيرة وواعية. الآن، وبعد سنوات غير عديدة، أقدم اعتذارى عن تفاؤلى المتسرع. مرة بعد مرة وسفرة بعد سفرة يتأكد لى أن مطار القاهرة قد تمرد على العولمة. بل اكتشفت أن العولمة بجلالة قدرها انكسرت فى هذا المكان تحديدا تحت ضغط ونفوذ عوامل محلية. الأمثلة على عناصر تخريب العولمة فى مطار القاهرة ليست قليلة. أختار منها هذا العدد الهائل من عمال يرتدون زيا خاصا. يبدو من زيهم هذا أنهم يعملون فى شركة قطاع خاص أو لدى هيئة المطار، ووظيفتهم حمل الحقائب لتسهيل عملية السفر وتخفيف الزحام. يحمل الفرد منهم الحقائب من السيارة إلى باب الدخول ليقطع الطريق عليه فرد آخر بنفس الزى مصرا على حملها بالاستجداء حينا والابتزاز حينا آخر، فينقلها من الرصيف إلى داخل ماكينة الكشف عن المتفجرات والأسلحة. على الناحية الأخرى من الماكينة يقف عامل آخر بالزى نفسه فى انتظار أن يحمل الحقائب إلى حيث يصطف المسافرون فى طابور استلام بطاقة السفر وتسليم الحقائب. يحدث غالبا أن يترك العامل الحقائب معتمدا على أن شخصا رابعا أو خامسا يقف دائما إلى جانب موظف شركة الطيران بمهمة محددة وهى وضع الحقيبة على الميزان وربطها ببطاقة سفرها. خمسة أفراد على الأقل تناوبوا على الإمساك بحقيبة سفرى فى رحلة المائة متر التى تفصل بين السيارة وميزان الحقائب. هؤلاء، والخدوش التى شوهت حقائب سفرى واحدة بعد الأخرى، وما تحملته من نفقات وابتزازات واستعطافات وسخافات، ليست من العولمة فى قليل أو كثير. هكذا وبضمير مرتاح أستطيع أن أقرر أن مطار القاهرة اختار طواعية الانفصال عن ثقافة المطارات والعولمة والتزام ثقافة مواقف التوك توك وميكروباصات الأرياف.

•••

تأكيدا لخيار الانفصال عن العولمة يتعمد مطار القاهرة توجيه صدمة أخلاقية وحضارية للمسافر القادم من الخارج وبخاصة إن كان سائحا أجنبيا، فكما ودع المسافر بزفة حاملى الحقائب ها هو يستقبل العائد والسائح بزفة لا تقل همجية. ما أن يخرج العائد من الخارج، مواطنا كان أم سائحا، يدفع أمامه عربة متهالكة ومتعرجة المسار والأهداف تحمل حقيبة سفره، وهو فى الغالب متعب بعد انتظارين طويلين، أحدهما فى طابور العائدين المصطفين أمام كابينة شرطى الجوازات، والثانى حول «السير» الكهربائى الناقل للحقائب، إلا ويقابله، بعد انتهاء معاملاته مع مأمورى الضرائب، حشد غريب من رجال ونساء من كل الأعمار يتناوبون على تهنئة الراكب العائد من رحلته فى الخارج بسلامة الوصول. كل منهم يحاول القبض بيد حديدية على عربة الحقائب لتوجيهها نحو تاكسى ليموزين بـ«التكييف والعداد». لا وسيلة لإقناع هؤلاء فرادى أو مجتمعين بأن للراكب سيارة خاصة فى انتظاره. لا أمل فى إقناع هذا الشاب الممسك بطرف العربة أن الراكب ربما اقترب من حالة الغضب ولا يريد شيئا غير أن يخرج أولا من هذا الحصار الجسدى والأنفاس الحارقة إلى الهواء الطلق. يريد أن يفلت من الازدحام الخانق والصخب الشديد والتحرر من عشرات الأيادى، التى تمسك بكم جاكتته أو بمقود العربة. يريد أن ينهى رحلته جالسا على مقعد مريح فى سيارة تنتظره لتنقله بسرعة إلى عائلته وأحبائه.

لم يتبق سوى أمتار تفصله عن سيارته. مشوار على قصره يحتاج إلى مهارة فى «الزوغان» من هجوم صبى فى العاشرة أو شيخ فى السبعين، كلاهما يريد اختطاف الراكب نحو ليموزين. وما أن يخرج المسافر، من صالة الصراخ ونداء الصبيان المروجين للتاكسيات، إلى ساحة المطار الخارجية حتى يجد فى انتظاره من يحاول انتزاع العربة أو آخر نجح فعلا فى حمل الحقيبة واحتضانها من دون أن يستأذن صاحبها. يراه وقد وقف والحقيبة فى انتظار السيارة التى ستأتى لحمل الاثنين، وما إن تأتى السيارة إلا ويظهر آخر يحاول فتح شنطة السيارة، باعتباره الشخص الوحيد المفوض «رسميا أو بالقوة العضلية» بوضع الحقيبة فى السيارة.

المشهد الأخير فى رحلة العودة إلى الوطن. دخل الراكب إلى السيارة وجلس على مقعده إلى جانب السائق. دار محرك السيارة واستعدت للتحرك لولا أن صبيا وقف متكاسلا غير مبال، ولكن بعناد وحزم، أمام السيارة ليمنعها من التحرك بينما «معلمه» الذى تكفل بوضع الحقيبة فى شنطة السيارة، يمد يده إلى السائق ثم إلى الراكب ليحصل من كليهما على ما يظن أنه يستحق لقاء خدماته. لن تتحرك السيارة وتنتهى رحلة المسافر إلا إذا دفعا.

هذا المشوار خارج مبنى المطار، مثل غيره من مشاوير داخل صالات المطار، ليس من العولمة فى شىء. لا يراه المصريون، الذين يتعاملون مع مطارات زيورخ وبيروت وفرانكفورت ولندن وبكين وطوكيو وبانجكوك وبومباى ودبى والدوحة والمنامة وتونس، وغيرها من المطارات التى يحرص القائمون عليها على علاقاتهم بالعولمة، وعلى مكانة مطاراته كرمز لها.

•••

المسئولون عن هذا التدهور فى التعامل مع مظاهر العولمة معروفون ومتعددون. ما يحدث فى مطارات مصر، وبخاصة مطار القاهرة، ليس شأنا من شئون هيئة المطار وحدها، بل هو بالدرجة الأولى مسئولية وزارات السياحة والاستثمار وبشكل خاص وزارة الداخلية. أفهم أن تسكت هذه الأخيرة عن مشكلة تحول بعض أهم أحياء وسط القاهرة وضواحيها إلى عشوائيات. تسكت ربما بحجة أن الظروف السياسية لا تسمح بزيادة عدد الغاضبين، ولكنى لا أفهم أن تسكت عن عشرات أو مئات من الأفراد يحتلون موانى مصر الجوية، يتحرشون بالسياح، ويهددون أمل مصر فى قرب إنفراج غمتها، ويتسببون فى النهاية فى زيادة غضب المسافرين المصريين إلى الخارج، وفى إطفاء جذوة حنين العائدين لتوهم من الخارج، وإحباط حلمهم.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي