سألتنى عن ماضى حياتى ولم تحدد عن أى ماضٍ تسأل. ومع ذلك يسعدنى أن أجيب. أبدأ، على كل حال، بطفولتى. أبدأ بها ليس لأنها أول ماضٍ وأقدم ماضٍ، ولكن لأنه أحلى ماضٍ فى حياتى، ولأنه الماضى الذى أذكره أكثر من غيره، وربما لأنه الماضى الذى عشته متحررة من أى نوع أو درجة من المسئولية، أو لأنه الفترة من الزمن حين يستحيل أن يخطر المستقبل على العقل وحين لا يتجاوز الطموح حدود الشعور بالشبع وبعده الحب.
• • •
ولأن هذا الماضى هو الأول لم يسبقه لينافسه على النصيب الأكبر من ذاكرتى ماضٍ آخر أو هكذا كان اعتقادى حتى سمعت أو قرأت أن هناك من العلماء من يعتبر أن عددا بعينه من شهور الحمل تدخل، أو يجب أن تدخل فى حسابات حياتنا. يعنى أن يأتى يوم يخرج المولود ومعه ذاكرة شهور قضاها جنينا فى رحم أمه.
وحتى يأتى هذا اليوم سوف أظل أعتز بذكريات طفولتى وأحتفظ بها شهادة على أننا كبشر عشنا مرحلة براءة لم تتكرر ولن تتكرر على امتداد حياتنا. أعتز بها أيضا لأننى عشت هذه المرحلة فى نعيم من الدلال. قضيتها شهورا أتنقل من حضن إلى آخر. لا أجوع أو أعطش أو أترك على فراشى دون رعاية أو تدليل. خافوا أن أبكى. تناوبت إطعامى أمى وخالاتى وعماتى وجارات وضيفات ومربيات. أنام ساعات على هذا «الحجر» أو ذاك. تفوق كل «حجر» على فراشى الجميل والوثير فى توفير النعومة والراحة والأمان والقرب من مصدر طعامى.
• • •
حبوت على أربعة لأسابيع ثم وقفت ومشيت على قدمين لشهور سبقت خروجى من هذه التجربة من بيت أمى لدار حضانة ومنها لروضة أطفال. جعلنى أهلى أجرب مدارس الراهبات منتبهين إلى أن الوقت حان لإضافة الضبط إلى التدليل. لأول مرة جربت الانضباط والترتيب واللياقة وآداب الحديث وأناقة المظهر. ولأول مرة أجبرونى ثم تعلمت كيف أتصرف مع الصبيان كأنثى تتساوى معهم فى الحقوق والواجبات والعواطف والرغبات. كبرت ولم يفاجئنى رجال حياتى بآفات وتشنجات وغيرها من أمراض الذكورة خاصة فى كل مرة تصادمت أنوثتى المنضبطة مع ذكورية منفلتة. حاتم، أحد أبناء عمومتى لم يفارقنى منذ سنوات الحضانة. نشأنا معا ولعبنا معا. وجوده إلى جانبى أسبغ حماية وأبعد عنى شرورا كثيرة. اخترعنا معا وسائل ترفيه وكانت لنا لعبنا وألعابنا.
• • •
أظن أن للراهبات فى مدرستى وفى تلك المرحلة المبكرة من تكوينى الفضل فى غرس الاحترام العاقل والفاهم للتقاليد الدينية، وللحق لازمنى هذا الاحترام عندما شاءت الظروف أن أخالط قادة دين متنورين من الهندوس والبوذيين ورجال أديان من الشرق الأوسط خلال مؤتمرات ومعسكرات تثقيفية حضرتها أو شاركت فى تنظيمها فى آسيا وخارجها خلال رحلات منتصف العمر.
• • •
اجتمعت العائلة الكبيرة فى بيتنا كما تعودت أن تفعل فى المناسبات. هذه المرة بدون مناسبة معلنة. حضر الكبار وحضر أبناء وبنات العمومة وعديد الأطفال. قال أحد الكبار بصوت كاد يكون مسموعا، «طول عمرنا بنقول إنهم لايقين لبعض، وأكتر اثنين فى العيلة، بنت وولد عاشوا يحبوا بعض من يوم ما ابتدوا يلعبوا مع بعض». مرت دقائق قبل أن أكتشف أننى الفتاة المعنية بالأمر ويكتشف حاتم وكان يجلس بجانبى أنه الصبى المعنى بالأمر نفسه. تبادلنا نظرة استفهام وانفجرنا فى الضحك. ارتفع صوتى وسط الضحك الذى انتقل من ركن كنا نجلس فيه إلى كل أنحاء القاعة، أذكر أننى توجهت بالكلام إلى حاتم متسائلة، «الحق يا بنى دول دبروا لينا حاجة».
لا أنكر أننى لوهلة مدتها ثوانٍ تصورت أن العائلة ربما قررت تكليف حاتم بمرافقتى فى رحلة السفر إلى المدينة الأوروبية التى قبلت إحدى جامعاتها طلب انضمامى لبرنامج الدراسات العليا. قطعت أمى حبل تصوراتى عندما رأيتها تقف لتعلن بصوت يتهدج فرحا وعيناها علينا، «مبروك يا ولاد، انتو النهارده اتخطبتوا لبعض وفرحكم الأسبوع الجاى». اقترب حاتم ليهمس فى أذنى «الجماعة مش فاهمين، حاولى تفهمى طنط وأنا لن أترك أمى تنام الليلادى إلا بعد أن تفهم حقيقة العلاقة بيننا».
• • •
فشلنا. سألتنى أمى إن كنت بالفعل أحبه وطلبت إجابة صريحة ومباشرة. أجبتها «طبعا يا أمى». ردت بالقول «هذا بالضبط ما نطقت به فى مجلس العائلة عندما عبر جدك عن خوفه وخوفنا جميعا من أن تنزلق العلاقة بينكما إلى ما لا يحمد عقباه. كنا على مدى السنين نراقب قربكما لبعضكما. كلهم تصوروا من زمان أنكما ستطلبان منا ترتيب زواجكما. طبعا لا أنتِ ولا هوه عارفين إن العيلة خصصت لكما شقة فى عمارة الشركة المطلة على النيل وجهزناها بالكامل. كلهم متفقون على أن خير البر عاجله».
• • •
دخلنا شقتنا بعد ليلة مرهقة. كنا اتفقنا قبل الفرح على أن نسايرهم فبين الكبار فى العائلة من لن تتحمل صحته ولا مكانته علامة رفض من جانبنا. لم ندرك خطورة ما فعلوا بنا وما فعلنا بأنفسنا إلا عندما أغلقنا باب الشقة علينا. لم تكن أول مرة ننفرد ببعضنا. سافرنا معا إلى بيروت وسردينيا وباريس ضمن رحلات جامعية ولم نكن نفترق. كثيرون تنبأوا لنا بالمصير الذى صرنا إليه. فقط الأصدقاء المقربون كانوا مطلعين على جوهر العلاقة ومعجبين بها. انتقلنا من حيث كنا عند باب الشقة إلى غرفة جلوس مزودة بجهاز تليفزيون. جلسنا متواجهين فى صمت. تذكرت شيئا. تذكرت الصندوق الذى لا يفارقنا، نحتفظ فيه بأفضل ما فى ترسانتنا من ألعاب ولعب والكتب المحببة لدينا. رحت أبحث فى كل مكان من الشقة لنكتشف بعد البحث أن أهالينا قرروا حرماننا منه فلا شطرنج ولا طاولة ولا غيرهما من بدع التسلية الراقية. المؤامرة مكتملة الأركان.
• • •
مر الوقت ثقيلا. لأول مرة نكون معا ونشعر بالوقت يمر بطيئا وثقيلا. غلبنا لساعة الشعور بالغبن. بعد الساعة نظر كل منا للآخر وأمعنا النظر وتأملنا وقرأ كل منا ما يدور فى ذهن الآخر. ضحكنا وتعالت ضحكاتنا فى أرجاء الشقة ساحبة منا شعور الانكسار. هدأنا قليلا قبل أن تصدر منا عبارة لخصت بكل السخرية الممكنة الموقف الذى انتهينا إليه. أعلناها صريحة مدوية «مش حينفع».