كل هذا الركام - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الإثنين 25 نوفمبر 2024 5:47 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كل هذا الركام

نشر فى : السبت 16 أغسطس 2014 - 7:45 ص | آخر تحديث : السبت 16 أغسطس 2014 - 7:45 ص

أطلت ثأرات الماضى فى توقيت واحد على المشهد المصرى من نظامين أطيح بهما على التوالى بأقل من ثلاث سنوات.

لكل نظام تقوض أطلاله وركامه ورهانات على العودة إلى السلطة، أحدهما بقوة المال والنفوذ والآخر بخيار السلاح والعنف.

ركام الماضى يسد الطريق إلى المستقبل دون أن يكون هناك فى المقابل ما يلهم فى إزاحته.

الأطلال لا تعترف بخطاياها التى أفضت إلى هدم سلطتها وتنكر أن شعبها قد ثار عليها.

شىء من الإمعان المشترك فى «أحاديث المؤامرات»، فثورة يناير «مؤامرة خارجية ومخطط له أهدافه الاستراتيجية» على ما أسهب وزير الداخلية الأسبق «حبيب العادلى» فى الدفاع عن نفسه أمام ما أطلق عليها «محاكمة القرن» وثورة يونيو مؤامرة أخرى مبيت لها.

فى الحالتين فإن الكلام بلغته ومنطقه ينزع عن الشعب المصرى شرف الثورة مرة على الظلم الاجتماعى الذى طال والاستبداد السياسى الذى أكل حيوية البلد ومرة أخرى على الذين انقضوا على الثورة وأهدافها والدولة وطبيعتها.

بحسب شهادتى وزيرة الخارجية «هيلارى كلينتون» ووزير الدفاع «وليام جيتس» فإن إدارة «باراك أوباما» فوجئت بثورة يناير وانقسم مجلس الأمن القومى الأمريكى إلى توجهين أولهما يدعو إلى الحفاظ على «نظام مبارك» بالنظر إلى سجله فى خدمة المصالح الأمريكية وثانيهما يتبنى ضرورات التغيير من زاوية المصالح نفسها.

كان الحرس القديم فى جانب «مبارك» غير أن التطورات المتسارعة تحت ضغط الفعل الثورى استدعت انهيارا فى نظام افتقد بفداحة شرعيته.

كلام «العادلى» نفسه يستحق المحاكمة، فإذا كانت يناير مؤامرة توافرت المعلومات عنها فى الأجهزة الأمنية السيادية ووضعت أمام رئيس الجمهورية فإن الحساب على التقصير بحق البلد وأمنه القومى لابد أن يكون رادعا.

وإذا كانت يناير مؤامرة فهل كان انحياز الجيش لإرادتها الشعبية شرف نسب نفسه إليه أم شراكة فى التواطؤ على البلد ومصيره؟!

هناك باليقين مؤامرات جرت فى مجرى الثورة لقطع طريقها ومصادرة فعلها لغير أصحابها الذين دفعوا فواتير الدم للانتقال إلى عصر جديد، وهذا من طبائع الأمور فمصر دولة مركزية فى محيطها والدول الكبرى ليست جمعيات خيرية ترسل برقيات التهانى بنجاح الثورات دون أن تدخل طرفا مباشرا فى تفاعلاتها وفق ما تراه من مصالح وما تختاره من حلفاء.

قد راهنت الإدارة الأمريكية على جماعة الإخوان المسلمين ووضعت المجلس العسكرى تحت الضغط المتواصل لتسليم السلطة بالطريقة العشوائية التى جرت بلا دستور ينظم أو قواعد تضبط.

الرهان الأمريكى على الجماعة لم يكن وليد يوم وليلة فقد سبقته حوارات متصلة بعضها معلن وبعضها الآخر سرى جرت بمقتضاها تفاهمات بخصوص معاهدة السلام مع إسرائيل وتفاهمات أخرى بشأن الاستراتيجيات الأمريكية المحتملة فى المنطقة.

لم تكن يناير مؤامرة غير أن ثغراتها سمحت بالانقضاض عليها وذهاب جوائزها إلى غير أصحابها.

أحاديث المؤامرة أعادت إنتاج نفسها فى يونيو بصورة مختلفة جرى فيها تبادل مقاعد الاتهامات.

أطلال نظام «مبارك» نسبت نفسها إلى يونيو كأنها قادت التغيير الكبير وأن الكتل الجماهيرية الهائلة فى الشوارع خرجت لإعادتها للحكم بينما النظام نفسه بدولته البوليسية عجز بصورة مزرية فى الدفاع عن نفسه وذرته يناير وثورتها كأوراق الخريف.

المثير فى محاكمة «مبارك» الجرأة على الحقائق الثابتة كأنها لم تحدث، فقد جرى نفى أن يكون هناك «مشروع توريث» من الأب إلى نجله الأصغر كأن البلد كله الذى أهلكه هذا المشروع لعشر سنوات متصلة عاش فى غيبوبة سياسية وأن الأمر كله شائعة تورطت فى تصديقها والترويج لها صحف معارضة وحركات احتجاجية وجماعات شباب ومؤسسات سيادية أولاها الجيش نفسه.

افتقدت محاكمة «مبارك» موضوعها الحقيقى، فهو لم يحاسب على الخطايا التى ارتكبها نظامه على مدى ثلاثين سنة واقتصرت على أيامه الأخيرة.

أسباب الثورة غابت وفى غيابها ما سمح له أن يورد حديث منجزاته فى خطابه «شبه الرئاسى» من داخل القفص.

العناوين الرئيسية لما تحدث فيه هى بذاتها ما كان يجب أن يكون موضوع محاكمته حتى لا تمتد خيارات الماضى إلى المستقبل.

فى خطايا الجماعة ما برر لـ«مبارك» وعهده الانتقال من الدفاع المهزوز إلى الهجوم المنهجى على يناير كلها والنيل فى الوقت نفسه من شرعية الحكم الحالى الذى ينتسب وفق النص الدستورى إلى ثورة يناير يونيو.

فى ثغرات اللحظة ما سمح للجماعة باستقطاب تعاطف ليس بالضرورة موجها من «الميديا الغربية» والطعن على (٣٠) يونيو بـ«أحاديث الانقلاب» كأنها لم تفشل فى إدارتها للدولة ولم تكن أمينة عليها وانقلبت بإعلانها الدستورى على أى قيم ديمقراطية وقانونية.. استباحت خصومها وتصادمت بعنف دموى مع جماعات الشباب الغاضب وفرطت فى الأمن القومى بصورة استدعت مخاوف واسعة ووضعت البلد كله على حافة الانهيار والاحتراب الأهلى.

لا راجعت تجربتها فى الحكم ولا أبدت استعدادا لبناء رؤية جديدة تستجيب لمقتضيات الدستور الذى يمنع بناء أحزاب على أسس تخلط بين السياسى المتغير والدين المقدس وأمعنت فى العنف والتحالف مع تنظيمات تكفيرية كأنها تنتقم من شعبها الذى أطاحها بما عمق أزمتها وقوض أية فرصة للمصالحة أو الحديث عنها.

فى توقيت واحد أطل ركام نظام «مبارك» من خلف قفص المحاكمة يهاجم يناير وركام نظام الجماعة فى ذكرى فض اعتصام «رابعة» ينال من يونيو.

بدا المستقبل نفسه محل تساؤل تحت ضغط ركام الماضى.

المثير أن قضية «رابعة» رافقت المحاكمة إلى تساؤلات المستقبل.

القضية بذاتها موضوع عناية دولية واستقطاب إقليمى وتجاذب داخلى بدأ يخفت بصورة لافتة تحت عنف الجماعة واتساع فجوات الكراهية معها.

أسئلة توقيت تقرير منظمة «هيومان رايتس ووتش» ومنهجيته تسابق اتهاماته للسلطة المصرية.

من حيث التوقيت فإن إعلانه قبل يومين من تظاهرات الجماعة المتوقعة وتهديدها بـ«دق الرقاب» واستعدادات الأمن لمواجهة احتمالات العنف بـ«الرصاص الحى» هو بذاته تحريض على العنف وسقوط ضحايا جدد.

أما منهجيته فقد افتقدت توازنها. وانحازت إلى رواية وأهدرت رواية أخرى وغاب فيها بفداحة أى سياق سياسى لما قبل الفض وبعده.

عنوان التقرير «حسب الخطة» يوحى بانحيازاته، كأن هناك من خطط منهجيا لهجوم قمعى على معتصمين سلميين لإيقاع أكبر عدد من الضحايا فهو إذن «جريمة ضد الإنسانية» تستدعى الملاحقة الجنائية الدولية. وهذا استنتاج يجافى سياق ما جرى قبل (٣٠) يونيو وبعده، فالتجمع فى «رابعة» كان هدفه الرئيسى قطع الطريق على حق التظاهر السلمى من أجل انتخابات رئاسية مبكرة وجرت فوق منصته قبل إطاحة «محمد مرسى» وبعدها تهديدات بالحرب الأهلية والقتل على الهوية السياسية.

علا صوت السلاح فوق أى صوت آخر وافتقد الاعتصام بشهادة الصور أىة صلة بالسلمية، وهذا وضع لا تحتمله أية دولة فى العالم.

رغم أية أخطاء أمنية ارتكبت أثناء فض الاعتصام وقع من جرائها ضحايا وأبرياء وتتطلب التحقيق المحايد فيها فإنها لم تكن ممنهجة.

السياق السياسى ينسف منطق تقرير «هيومان رايتس» فى توصيف الوقائع، فالعنف اعتمدته الجماعة منهجا منذ محاولتها بقوة الميليشيات فض تظاهرات «ميدان التحرير» التى خرجت تحت عنوان «كشف حساب المائة يوم الأولى» من حكم «مرسى»، وكانت تلك مقدمة لأزمة شرعية مبكرة وصدامات شوارع مروعة بامتداد البلد كله بين الجماعة ومناهضيها وصلت إلى ذروتها الدموية فى أحداث «الاتحادية» تلتها وقائع أخرى بعد إطاحة «مرسى» لا تقل دموية وعنفا وسقط فيها ضحايا من الجانبين.

فى نفس يوم الفض أحرقت كنائس ومحاكم وأقسام شرطة ومكتبة الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فى برقاش بوثائقها وأوراقها التى يصعب تعويضها.. وبعده مباشرة شهدت القاهرة تظاهرات مسلحة فى ميدان رمسيس وفوق الجسور رفعت أعلام القاعدة.

الصدام الدموى إذن كان محتما وحسم الموقف رغم أية أخطاء ارتكبت لم يكن هناك منه مفر.

باليقين فإن هناك ضحايا سقطوا فى الأحداث الدموية لم يرفعوا سلاحا ولا انتهجوا عنفا ويتعين على أى دولة محترمة أن تصون حق الدم وتحقق فى الوقائع عبر لجنة مستقلة تحيل تقريرها الأخير للجهات القضائية.

التحقيق الوطنى ضرورى لسلامة المجتمع ومستقبله ولا تعنى الأخطاء الفادحة فى تقرير الـ«هيومان رايتس» إهدار القضية كلها.

من حق مصر أن تزيل أطلال الماضى بدولتيه البوليسية والدينية عن طريقها.

ما بين الركامين غاب المستقبل وبدت خطى الوضع الجديد متثاقلة فى حسم خياراته الأساسية ووجهة طريقه.

لا هو امتلك استراتيجية جديدة فى إدارة الاقتصاد بما يقنع أن هناك تحولا اجتماعيا محتملا ينفى هيمنة «رأسمالية مبارك» على السلطة وينحاز للقوى الاجتماعية التى قامت بثورتين دون أن تجنى شيئا تقريبا ولا تبدت استراتيجية أخرى فى مواجهة الإرهاب تتجاوز ما هو أمنى إلى ما هو سياسى واجتماعى وثقافى تمنع أية عودة محتملة لأشباح الدولة الدينية وتؤسس لدولة ديمقراطية حديثة.

وهذا وقت الحسم فالبلد لا يحتمل الحياة تحت الركام.