«رافضك يا زمانى يا أوانى يا مكانى.. أنا عايز أعيش فى كوكب تانى»، بهذه الكلمات الموجعات والموحيات، فى آن، صدح المطرب مدحت صالح، قبل نيف وثلاثين عاما خلت، بأغنيته الأشهر «كوكب تانى»، التى نظمها الشاعر المبدع مدحت الجمال، ولحنها الموسيقار المتألق سامى الحفناوى، لتكون أيقونة الألبوم المميز «كوكب تانى» الصادر عام 1988، ودرة تاج المسيرة الفنية والغنائية لأحد أبرز مطربى جيل الوسط الموهوبين.
لم يخبُ الوَهج العالمى للأغنية المدوية بحصدها الجائزه الفضية، أو البرتقالية، وفقا لأعراف المهرجان العالمى للأغنية بمدينة أنطاليا التركية عام 1988، ، بعدما زلزل بها مدحت صالح أروقة المسرح الرومانى المفتوح والمهيب، حينئذ، أو حتى بحصول الألبوم الذى يضم ثمانى أغنيات متميزة، على الاسطوانة البلاتينية. فلقد تجاوزت أصداؤها حدود الزمان والمكان، لتغدو تعبيرا مأساويا عن واقع أليم بات يلقى بظلاله على كوكبنا المكلوم.
حينما غازلت تلك الأغنية مسامع هواة الطرب للمرة الأولى، لم يكن العالم قد بلغ مستواه الحالى من الوعى بالمخاطر التى تهدد مستقبل الوجود الإنسانى، والمتمثلة فى: مأزق اختلال التوازن البيئى، ومحنة التغيرات المناخية، وأزمة اضطراب التنوع البيولوجى. فبعدما سجل شهر يوليو 2021 أعلى درجات حرارة على كوكب الأرض منذ بدأ تسجيل المعطيات قبل 142 عاما، إذ ارتفعت الحرارة العامة لسطح الكوكب خلاله بواقع 0,01 درجة مئوية، حسبما أفادت الوكالة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوى، لا يستبعد خبراء البيئة والمناخ أن يفضى استمرار التدهور المناخى وانحسار التنوع البيولوجى على كوكب الأرض بالوتيرة الحالية، دونما تحرك إنسانى عاجل لوقف تلك الكارثة، إلى تقويض صلاحية الأرض للحياة البشرية فى غضون ثلاثة إلى أربعة عقود على أقصى تقدير.
ويستشهد أولئك الخبراء فى أنشطتهم البحثية بتجارب تاريخية مشابهة، حيث يفصح التاريخ الإنسانى عن تعرض الحياة على الأرض للفناء فى أزمان غابرة، نتيجة لتغيرات مناخية استثنائية، لا تختلف كثيرا عن تلك التى تلقى بظلالها على عالم اليوم، وإن كانت أشد وطأة. فقد خلُصت دراسة نشرت العام الجارى بمجلة « Geology»، إلى أنّ الانقراض الجماعى الأول المعروف أنثروبولوجيا بـ«الانقراض الأوردوشيفى المتأخر»، الذى حدث قبل حوالى 450 مليون سنة، واستمر طيلة حوالى ثلاثة ملايين سنة، إنما تَأتَى إثر احترار عالمى نجم عن انفجارات بركانية، وأفضى بدوره إلى انتهاء عصر جليدى، وارتفاع مستويات البحر، وهبوط معدلات الأكسجين فى المحيطات، ما أسفر عن هلاك زهاء 85 %من جميع الكائنات البحرية.
لم تجد جهات دولية معنية كالمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، غضاضة فى تحميل البشر مسئولية تنامى تركيز غازات الاحتباس الحرارى فى الغلاف الجوى منذ عام 1750، وارتفاع درجة الحرارة بنحو 1.07 درجة مئوية، مقارنة بحقبة ما قبل العصر الصناعى بين عامى 1850 و1900، مع زيادة التوقعات بتجاوز متوسط الاحترار 1.5 درجة مئوية عن خط الأساس لما قبل العصر الصناعى، بحلول عام 2040. فبينما لا يتورع الإنسان عن المضى قدما فى تسخين الكوكب عبر تحصيل جل طاقته من حرق الوقود الأحفورى كالفحم والنفط والغاز، لم تؤت وعوده بخفض انبعاثات الكربون، بموجب اتفاق باريس للمناخ عام 2015، لإبقاء الاحترار العالمى دون 1.5 درجة مئوية ؛أكلها، حيث ارتفعت درجات الحرارة بما يقرب من 1.1 درجة مئوية منذ ذلك الحين.
برغم عدم توسعها فى الأنشطة الصناعية، مع تواضع معدلات استخدامها للطاقة، تضع الدراسات البيئية والمناخية منطقة البحر المتوسط ضمن قائمة أكثر مناطق العالم قابلية للتأثر بالتغيرات المناخية والتقلبات البيولوجية.حيث يتوقع العلماء أن يجتاحها مناخ صحراوى بحلول نهاية القرن الحالى، بما يستتبع توالى موجات الاحترار، وتعاظم الجفاف، وتدنى معدلات هطول الأمطار،
وتدمير الإنتاج الغذائى، وتقويض الأنشطة السياحية بجميع دول الإقليم. فبحسب معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تكابد منطقة البحر المتوسط احترارا وجفافا مروعين، إذ تخلق أنماط الرياح نظاما طبيعيا عالى الضغط، فى الوقت الذى سيتقلص الفارق فى درجات الحرارة بين البر والبحر بوتيرة أسرع من المتوسط العالمى، كون البحر المتوسط محاطا، بثلاث كتل يابسة تمثل قارات ثلاث، فى تكوين جيولوجى منقطع النظير. ولعل هذا ما يفسر إرجاع التقرير السنوى الثالث عشر للمنتدى العربى للبيئة والتنمية، نحو 23 %من أعداد الوفيات عربيا، إلى التغيرات المناخية والبيئية.
يواكب تنامى الاحترار العالمى هذه الأيام، يتسجيل المجتمع الدولى ارتفاعا مخيفا فى مؤشرات تردى التنوع البيولوجى، وأعداد النباتات والحيوانات المهددة بخطر الانقراض، وتدهور صحة البيئة البحرية والمحيطات، التى باتت تجابه تحديات هائلة، مع تنامى معدلات تلوثها بشكل دائم، وزيادة نسب حموضتها بنسب تنال من قدرة الأحياء البحرية على الحياة، وتراجع معدلات الأكسجين فى المياه، فى وقت تقدر قيمة إسهام المحيطات فى الاقتصاد العالمى بـ 1.5 تريليون دولار سنويا. الأمر الذى يستوجب تعزيز منظومة الاقتصاد الأزرق التى تولى اهتماما خاصا بالبيئة البحرية، باعتبارها القناة الأهم لحركة التجارة العالمية، وأحد مصادر الأمن الغذائى، كما تحرص على حماية وضمان استدامة التنوع البيولوجى عبر اعتماد منظومة متكاملة تشمل إيجاد بنية تشريعية وقانونية، وإطلاق برامج ومشاريع دولية لإفساح المجال للاقتصاد الأخضر.
بقدر ما تفاقم تداعيات التغيرات المناخية وارتباك التنوع البيولوجى من الهجرات الشرعية وغير الشرعية، إلا أنها تبقيها داخل البؤر الحيوية للكرة الأرضية. وبناء عليه، لن يتسنى لمدحت صالح، أو أى من رافضى الحياة على كوكبنا البائس، بلوغ أمانيهم بتغيير محل إقامتهم الكوكبية عبر هجران الأرض والانتقال للعيش فى كوكب آخر يظنونه أفضل حالا. ففى تقرير دولى حديث، يدق ناقوس الخطر بشأن التداعيات الخطيرة للتغيرات المناخية، حذر علماء المناخ بالمركز القومى الأمريكى لأبحاث الغلاف الجوى، من ضرورة تحرك البشر لتدارك المآل الكارثى الذى ينتظر كوكبهم، حيث لا يوجد أمامهم ملاذ بديل للهرب أو الاختباء، وإنما يتعين عليهم استبقاءه آمنا مستقرا، أملا فى تسليمه للأجيال المقبلة، بكثير من القابلية للحياة.
فبينما يقدر العلماء عمر الحياة على الأرض بما بين 3.5 و 3.9 مليار سنة، لم تُكتشف أية مظاهر، ذات صدقية، للحياة على أى من كواكب مجموعتنا الشمسية الثمانية الأخرى، كونها تفتقر إلى جميع أسباب الحياة. فإلى جانب كونه كوكبا مائيا، تشكل المياه نسبة 70,8% من حيزه، يحوى الغلاف الجوى لكوكب الأرض جميع الغازات التى تعين مختلف الكائنات الحية على البقاء، وأهمها الأكسجين، وطبقة الأوزون، وكلاهما يحمى الأرض ومن عليها من أشعة الشمس الضارة كالأشّعة فوق البنفسجية، والاشعة تحت الحمراء، فضلا عن الشّهب والنّيازك والأجرام المندفعة صوب الأرض. وإلى جانب المجال والغلاف المغناطيسيين، يبقى مستوى الجاذبية الموجود على الأرض هو الأنسب، من بين كواكب المجموعة الشمسية، لاستقرار الكائنات الحية جمعاء. كذلك، تتموقع الأرض على مسافة مناسبة من الشمس، فلا هى باللصيقة بها بما يحول دون تحمل وهجها وحرارتها المميتة، ولا هى بالبعيدة كثيرا عنها، بحيث تحرم سكانها من ضيائها ودفئها. وفى أحدث دراساتها، تؤكد مجلة Nature Geoscience، تمتع الأرض، دون سواها من سائر الكواكب، بظاهرة كونية فريدة، تتمثل فى تفاعل العناصر التكتونية والمجال المغناطيسى والمناخ، لتكوين بيئة الأرض التى يعيش فيها البشر حاليا، إذ يتسبب التغير المستمر فى وضع الصفائح التكتونية للأرض فى حدوث انقلاب منتظم لسطحها، بما يُبرّد قشرتها، ويحافظ على وجود حقل مغناطيسى قوى للكوكب ويحفز نشاطه البركانى.
إذا كان استبدال البشر للأرض يأتى فى عداد المستحيلات، فما استبدال الله للبشر عليه، سبحانه وتعالى، بعزيز. فلقد وَرَدَت لفظة «الاستبدال» فى موضعين بالقرآن الكريم، للتعبير عن تغيير الله لقاطنى الأرض من البشر، جراء كفرهم وابتعادهم عن منهجه، توطئة للمجىء بآخرين أكثر خيرية. حيث يقول تعالى فى الآية 39 من سورة التوبة:« إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا». أما فى الآية 38 من سورة محمد، فيقول، تجلت حكمته: «وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم». وفى تفسير الآيتين يرى الإمامان الطبرى وابن كثير، أن تولى البشر عن طاعة الله، يستجلب عصفه بهم والإتيان بمن هم أمضى طاعة واستقامة. ولقد اعتمد الحق تبارك وتعالى آلية الإهلاك لاستبدال مردة خلقه، كما جرى مع أقوام: ثمود، وصالح، ولوط، وشعيب، وفرعون، وحسبما ورد فى الآية 39 من سورة العنكبوت، إذ يقول، جل شأنه: «فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».