انبثقت نظرية الأمن الإسرائيلية من أطروحة زئيف جابوتنسكى، الأب الروحى لليمين الإسرائيلى، ومؤسس الحركة التصحيحية (أو التنقيحية). وكانت قناعة جابوتنسكى أن «القوة العسكرية هى وحدها القادرة على إيجاد والحفاظ على استمرار الدولة اليهودية». وقد ترجم بن جوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلى وأحد المؤسسين الأوائل للكيان، مبدأ الجدار الحديدى لجابوتينسكى إلى أحد الأسس الرئيسية لاستراتيجية الأمن القومى الإسرائيلى.
أدرك بن جوريون منذ البداية ماذا يعنى نشوء دولة مصطنعة على أرضٍ ليست له، فعمد إلى وضع أساسٍ أولى للأمن قائم على نظرة عسكرية مرتكزة للقوة، مفادها أن أمن «إسرائيل» القومى هو أمن «الأقلية مقابل الأكثرية». فقد كتب نائب رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلى السابق يسرائيل طال، وهو من الفريق الذى ساعد بن جوريون على صياغة الأفكار التى مثلت استراتيجية الأمن القومى، فى كتابه «قلة فى مواجهة كثرة»: «كان واضحًا لقادة إسرائيل منذ بداية الطريق أن سماء الأمن القومى ستكون متكدرة لوقت طويل، وستضطر إسرائيل إلى الاعتماد على سيفها حتى ييأس العرب من أملهم باجتثاثها بالقوة من المنطقة».
لا بُد أن يستند هذا السيف [القوة العسكرية] إلى تبنى سياسة هجومية لا دفاعية، لأنَّ الثانية معناها استنزاف «إسرائيل» وهو أمرٌ صعب التنفيذ. مع إدراكه لأنَّ تلك القوة ولضمان بقائها فمن المفترض أن يُصاحبها جهدٌ سياسىٌ فى الساحة الدولية.
كانت «إسرائيل» التى تصوّرها بن جوريون دولة تسعى لفترات طويلة من الهدوء، ولتجنب المواجهات العسكرية قدر الإمكان. لكن عليها، إذا دعت الحاجة، أن تحقق نصرًا سريعًا بسبب صغر حجمها ومحدودية مواردها البشرية، وعلى هذا الأساس وُضعت مرتكزات العقيدة الأمنية، وأهمها:
أولًا: تعزيز قوة الردع.
ثانيًا: نقل المعركة فى أقرب وقت ممكن إلى أرض العدو وإنهاؤها بسرعة.
ثالثًا: تدمير قوات العدو العسكرية ومعداته.
رابعًا: «هجوم استباقى» أو «حرب خاطفة وقائية» فى حال التأكد من خطر وشيك.
خامسًا: سلاح نووى كخيار أخير.
ومن أجل تحقيق هذه الغاية، جرى اعتماد مبدأين:
• كان الأول منهما فكرة «جيش الشعب»، الذى يمكن تعبئته بسرعة، وهو يتكوّن أساسًا من المجندين فى الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياط. وهو جيش نظامى محترف صغير وقوات احتياط كبيرة وقوات جوية متقدمة، وتفوّقه على الأسلحة الجوية العربية مجتمعة، وأجهزة استخبارات عالية الكفاءة.
• والمبدأ الثانى أصبح يُعرف بـ«المثلث الأمنى» الذى ترتكز عليه العقيدة الأمنية: الردع، والإنذار المبكر، والانتصار العسكرى الحاسم.
على ضوء ذلك، طوّر بن جوريون ثلاث ركائز أساسية تقوم عليها النظرية الأمنية هى: الردع، والإنذار المبكر، والحسم السريع. أى ردع العدو عن المبادرة للحرب من خلال زرع قناعة راسخة لديه أن «إسرائيل» تمتلك قوة عسكرية هائلة للحد الذى يفقد فيها القدرة على تحمّل الدمار الذى ستحدثه ضربة «إسرائيل» الثانية لبلاده، إذا ما بادر بالضربة الأولى لـ«إسرائيل»، والإنذار المسبق أو المبكر حول أى نوايا هجومية للعدو، والحسم السريع إذا ما قرر (العدو) مهاجمة «إسرائيل».
• • •
ولكن مع صباح يوم السبت السابع من أكتوبر 2023 تبددت كل هذه الافتراضات والتقديرات التى استندت إليها النظرية الأمنية الإسرائيلية. أدّت «طوفان الأقصى» إلى أزمة حقيقة مسّت قلب العقيدة الأمنية الإسرائيلية وركائزها المذكورة، ووصفت بزلزال استراتيجى زعزع صورة الجيش الإسرائيلى وواقعه:
الردع
دلت المواجهات مع المقاومة على قصور «الردع»، فقد اضطرت «إسرائيل» إلى شن عدة حروب على قطاع غزة، ولم تتمكن من تحقيق الردع المطلوب عسكريًا، إذ استمر إطلاق الصواريخ على «إسرائيل» فى مراحل متفاوتة، فتحولت الجبهة الداخلية الإسرائيلية إلى جزء من المواجهة، بشكل أَثّر فى المجتمع الإسرائيلى.
الإنذار المبكر
فى «إسرائيل» اليوم هناك شبه إجماع على فشل ردع المقاومة فى غزة، لدرجة وصفه بعض كُتابهم بـ«القصص الخيالية»! فلأول مرة منذ نشوء الكيان يتم استهدف مواقع للجيش داخل ما يسمى بـ«الخط الأخضر»، أى تنتقل الحرب داخل حدوده الوهمية، حيث تمكنت قوى المقاومة من السيطرة على عدد كبير من مواقعه وقواعده العسكرية مؤقتًا.
فشلت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية فى معرفة نوايا ومخططات حماس، وفى توفير إنذار مبكر، يسمح للجيش بإجهاض عملية «طوفان الأقصى».
الحسم السريع
طبقًا لاستراتيجية الأمن القومى الإسرائيلى، وإذ لم ينجح «الردع» و«الإنذار المبكر»، فإنه يتوجب حسم المعركة سريعًا، والعمل على تقليص أمد الحرب، وهو ما يُعرف بـ«الحروب الخاطفة».
أثبتت «طوفان الأقصى» فقدان «إسرائيل» القدرة على «الحسم السريع»، فشنّ حرب خاطفة قصيرة يتوقف بالأساس على إحراز «إسرائيل» تفوقًا نوعيًا على حماس، وإطالة أمد حرب الإبادة لما يقارب الـ10 أشهر أدت إلى استدعاء الآلاف من قوات الاحتياط العاملين فى المرافق الإنتاجية وقطاعات الخدمات، ما تسبّب فى شلل الاقتصاد والمرافق الإنتاجية وقطاعات الخدمات بشكل كبير.
• • •
رغم كثرة الادعاء والتنظير لفكرة أن بنيامين نتنياهو «غبى» و«مجنون» يقود «دولة إسرائيل» إلى الدمار بإطالة أمد الحرب، وأن مصالحه الشخصية تحرّك عجلة الحروب فى المنطقة، وأنه يحاول الهروب من الملاحقات القضائية... إلخ، إلا أن قيادة نتنياهو فى الفترة الأخيرة استثمرت العلاقات العضوية مع الغرب؛ لعب على وتر الصراع الحضارى بين الغرب والشرق، وأشار فى خطابات عدة إلى أنه وحكومته جزء من الصراع بين «الحضارة» و«البربرية»، وأنه وحكومته رأسُ حربة الغرب فى مواجهة التطرف الإسلامى، لذلك لا بد للغرب أن يقدّم كل أشكال الدعم اللازمة لتمكين «إسرائيل» من القيام بواجباتها فى حربها ضد غزة.
شكّل نتنياهو حالة فريدة فى تجربة «إسرائيل» السياسية، فمنذ التأسيس عام 1948 وحتى اليوم لم يتمكن أى من قياداتها، رغم أن بعضهم من المؤسسين ومن الجنرالات العسكريين الذين قاموا بأدوار كبيرة ومؤثرة، من الاستمرار فى الحكم لفترة زمنية طويلة كما فعل نتنياهو. يرمى الأخير إلى موضعة نفسه كـ«ملك ملوك إسرائيل»، وسليل ملوك روايات «الكتاب المقدس»، لا رئيسًا لحكومة «إسرائيل» فحسب.
أدرك نتنياهو أنه يستطيع ترميم النظرية الأمنية الإسرائيلية، وإدارة حرب الإبادة فى قطاع غزة، وتوسيع المعركة العسكرية لتشمل بلدانًا أخرى، لذا، لا يمكن إعادة الاعتبار إلى «دولة إسرائيل» ومنظومتها الأمنية من خلال اعتبار «طوفان الأقصى» عملًا عابرًا، وإنما يجب أن تدار المعركة من خلال تصعيد الوضع وتحويله إلى واقع غير قابل للمساومة.
سقط نتنياهو وحكومته فى خطأ كارثى عندما بدأ حرب الإبادة فى قطاع غزة بدون أى اعتبار للرأى العام العالمى، وبدلًا من محو صورة انهيار قوة «الردع الإسرائيلية»، رسخ صورة الإسرائيلى القاتل بلا رحمة، ومس بسمعة الجيش الإسرائيلى، وحدث انقلاب حقيقى فى الرأى العام العالمى ضد «إسرائيل» بعد رسوخ التعاطف معها على مدى 75 سنة، ووجدت «إسرائيل» نفسها ــ لأول مرة فى تاريخها ــ فى قفص الاتهام فى لاهاى بتهمة الإبادة الجماعية.
يهدف نتنياهو فى النهاية إلى إنقاذ العقيدة الأمنية لـ«دولة إسرائيل» بعد زلزال «طوفان الأقصى»، بحيث يكون الحل الوحيد والممكن للصراع مع قوى المقاومة هو حسمه بقوة النيران وبلا رحمة، وبذلك جرى التعويل على «الحسم السريع»، و«الانتصار فى الحرب»، وتحقيق «النصر المطلق». ولكن بعد مضى عشرة أشهر على «طوفان الأقصى» لا تبدو «إسرائيل» على وشك النصر، كما لم تظهر ملامح هزيمة قوى المقاومة فى قطاع غزة. ولا تزال المقاومة تسيطر على مساحات شاسعة من القطاع، وتحتفظ بالأسرى، وتنصب الكمائن، وتزرع الألغام، وتقنص الجنود الإسرائيليين، وتستهدف آلياتهم العسكرية. فقد اعترف الجيش الإسرائيلى ولأول مرة منذ بداية الحرب، بالافتقار إلى «الكثير من الدبابات المتضررة والذخيرة».
باختصار، نتنياهو يسعى لإعادة إحياء ثلاثية بن جوريون، المؤلفة من «الردع» و«الإنذار المبكر» و«الحسم»، وتعزيز «الجدار الحديدى»، وهذه المفاهيم والنظريات من المستحيل تحقيقها إلا بالقضاء على قوى المقاومة فى قطاع غزة، وهذا حلم بعيد المنال، فلا سبيل أمام نتنياهو سوى اتساع الحرب إلى خارج حدود قطاع غزة، وتحويلها إلى حرب إقليمية كبرى، لإنجاز نوع من «الردع» و«الحسم»، وهذه مقامرة كبرى، قد تكبد «إسرائيل» مزيدًا من الخسائر، وتؤدّى إلى هزيمة نكراء للجيش الإسرائيلى، تُعجّل فى تفكيك «دولة إسرائيل».
أحمد الدبش
موقع الكرمل