يأبى الرئيس الجمهورى المنتهية ولايته دونالد ترامب مغادرة البيت الأبيض بعدما تبددت آماله فى اقتناص عهدة رئاسية ثانية، إلا بعاصفة من الجدل تضارع تلك التى رافقت ولوجه إياه كرئيس منتخب مطلع العام 2017، فيما يراها طائفة من الباحثين تعبيرا عن تيار فكرى بدأ بالتبلور مع اقتحام ترامب عالم السياسة، لا يمثل ظاهرة عابرة أو منعطفا ظرفيا، بقدر ما يشكل امتدادا موضوعيا لتراكم سياسى طويل الأمد، وإفرازا طبيعيا لتغيرات ألقت بظلالها على المجتمع الأمريكى، اضطلع ترامب بدور بارز فى صنع بعضها، حتى التأمت أوصال ما يمكن نعته بـ«الترامبية».
طيلة قرن مضى، صك رؤساء أمريكيون كثر كويلسون وأيزنهاور وكارتر وريجان، مبادئ لسياستهم الخارجية، تم التنظير لبعضها سياسيا، على غرار تأصيل ويلسون فى كتابه الشهير «أربعة عشر نقطة» للركائز الكفيلة بترسيخ دعائم السلام العالمى، لكن دعاة «الترامبية» لم يقدحوا زناد فكرهم لتحديد قسماتها السياسية أو ملامحها الفكرية، مكتفين باقتفاء أثرها بمؤشرات من قبيل: حصد ترامب سبعين مليون صوت من بين 144 مليونا شاركوا فى عملية الاقتراع، علاوة على احتفاظ الجمهوريين بالسيطرة على مجلس الشيوخ، فيما اعتبرته مجلة «إيكونوميست» البريطانية استمرارا للشعبوية الأمريكية، واستكمالا لنهج ترامب وأفكاره، خصوصا فى صفوف التيار اليمينى، مستبعدة أن يكون فوزه بالرئاسة عام 2016 انحرافا سياسيا، بقدر ما شكل بداية لتحول أيديولوجى عميق يتخطى حدود الحزب الجمهورى ليطال العالم بأسره.
لم يتورع ترامب عن استغلال بقائه فى السلطة حتى ظهيرة العشرين من يناير المقبل لإسناد مناصب حيوية بأروقة الحكم لنفر من حوارييه، التماسا للحماية وابتغاء لمواصلة المسيرة. الأمر الذى اعتبرته شبكة «سى إن إن» تحديا للرئيس المنتخب، لاحت بوادره فى تعطيل مديرة الخدمات العامة المخولة نقل السلطة بالبيت الأبيض السماح لفريق بايدن الانتقالى ببدء العمل رسميا والتواصل مع الوكالات الفيدرالية لتوفير الاعتمادات اللازمة لتمويل عملية الانتقال الرئاسى. ومثلما أعلن ترامب بمستهل ولايته الرئاسية الأولى، اعتزامه الترشح لانتخابات 2020، يبحث اليوم خوض السباق الرئاسى عام 2024، حيث يبيح الدستور تولى الرئاسة لفترتين، سواء كانتا متتاليتين أو منفصلتين، بما يسمح باستئناف «الترامبية»، أسوة بما جرى مع الرايخ الثانى الذى أسقطته هزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى، ثم ما لبث أن ظهر الرايخ الثالث لاحقا باقتناص هتلر للحكم عام 1933.
وخلافا لـ«الويلسونية» أو«الأوبامية»، اللتين جنحتا لتوظيف قوة أمريكا الناعمة والذكية لحماية مصالحها الكونية، وتأبيد ريادتها العالمية، تسبح الترامبية عكس ذلك التيار بتسميمها النموذج الأمريكى الملهم. فبموازاة خطابه وسياساته المجافيين لجميع القيم والمبادئ الأمريكية، انبرى ترامب فى الانسحاب من بعض المعاهدات والمنظمات الدولية والتنصل من الدبلوماسية متعددة الأطراف، التى تشكل جميعها مرتكزات لحوكمة النظام الدولى. وبدم بارد، وجه ترامب طعنات غادرة للنموذج الديمقراطى الأمريكى، حينما أعرض عن تهنئة الرئيس المنتخب، وتهيئة انتقال سلس للسلطة يرمم بدوره اللحمة الوطنية المهترئة، كما لم يقبل بنتائج العملية الانتخابية التى شكك فى نزاهتها، معلنا فوزه بـ 71 مليون صوت «قانونيا».
رغم كونه ثانى اثنين مرشحين رئاسيين ورئيسين جمهوريين انتهت أولى ولايتاهما بفشل فى تحصيل الثانية، فشككا فى نزاهة الاقتراع، حيث سبقه لذلك الرئيس الأمريكى الـ27 وليام هوارد تافت، الذى انتخب رئيسا عام 1909 لكنه أخفق فى الفوز بولاية ثانية عام 1912، وأصدر بيانا يرفض فيه الاعتراف بالهزيمة، يمكن إرجاع تلويح ترامب بعدم مغادرة البيت الأبيض وإمعانه فى التشكيك بنتائج الانتخابات، إلى عزمه التمترس خلف حصانته الرئاسية تهربا من مساءلات قانونية وملاحقات قضائية تنتظره فور انقضائها، على خلفية ارتكابه سيلا من المخالفات، مع غياب أسانيد دستورية أو سوابق تاريخية تخول الرئيس العفو عن نفسه، وحصر القانون أوامر العفو الرئاسى فى حالات الجرائم الفيدرالية فقط. فبينما تتأهب مدعية نيويورك العامة لملاحقة ترامب قضائيا، إثر اتهامات بالاحتيال المصرفى، يطالب ممثل ادعاء مانهاتن بمراجعة سجلاته الضريبية، والتحقيق فى تقديمه رشاوى لامرأتين، إحداهما ممثلة إباحية والأخرى عارضة أزياء، لشراء سكوتهما أثناء حملته الرئاسية عام 2016، عن فضح علاقات شائنة خارج نطاق الزواج.
بدورها، هرعت دوائر سياسية وإعلامية تتبرأ من الرئيس المنتهية ولايته بعدما بدأت تتجلى تباعا إرهاصات أفوله الرئاسى. حيث ندد برلمانيون جمهوريون باعتماده تضليلا إعلاميا يفتقد للصدقية بشأن تزوير الانتخابات، التى وصفتها السلطات الانتخابية بالأكثر أمانا فى التاريخ الأمريكى، فيما عمدت كل من «فوكس نيوز» و«نيويورك بوست»، التابعتين لصديقه إمبراطور الإعلام الثمانينى المحافظ، روبرت ميردوخ، للنأى عنه. فبينما انحاز موردوخ منذ أشهر لتقبل فكرة فوز بايدن، كما تعاملت منابره الإعلامية بحذر بالغ مع مزاعم التزوير غير المبرهنة، التى يطلقها معسكر ترامب، استشعر كثيرون فى إعلان «فوكس نيوز» المبكر فوز بايدن بأريزونا، تخليا منها عن رئيس ساهمت فى فوزه غير المتوقع عام 2016.
فى حين تتوقع مجلة «إيكونوميست» إقدام كوادر جمهورية على تحويل «حزب الشاى» إلى تيار عريض أكثر يمينية بقيادة مايك بنس داخل الحزب الجمهورى، أو نجاح بعض الترامبيين فى مأسسة توجهاتهم بتدشين كيان حزبى خارجه، لا تعدو تلك السيناريوهات السوريالية كونها محض ردات فعل مرحلية انفعالية على صدمة إخفاق ترامب فى انتزاع ولاية رئاسية ثانية، مثلما جرى مع تيودور روزفلت حينما التقى جمعا من أنصاره المنشقين عن الحزب الجمهورى، بعدما رفض تسميته مرشحا رئاسيا عنه، ليعلن تأسيس «الحزب التقدمى» الذى رشحه لانتخابات الرئاسة عام 1912، لكنه خسرها لمصلحة الديمقراطى وودرو ويلسون، ثم رفض خوض السباق الرئاسى لعام 1916 عن حزبه الوليد، الذى تم حله بعدما هجره جل أعضائه وعادوا إلى رحاب الحزب الجمهورى، لتطوى تلك الصفحة نهائيا بوفاة روزفلت عام 1919.
وبينما لم يتحمس مراقبون لاعتبار تنقل بايدن على مدى العقود الأربعة المنقضية بين أروقة صنع القرار من الكونجرس إلى البيت الأبيض، ثم تتويجه لتلك المسيرة الثرية بفوز رئاسى مستحق، صعودا لما يمكن تسميته «البايدنية»، ظلت ألباب الديمقراطيين معلقة منذ انطلاق الانتخابات الأخيرة، بما اعتبروه «موجة زرقاء»، تجتاح البلاد لتحدث قطيعة سياسية وفكرية مع الزمن الترامبى. فعبر اقتراع بات الأكثر مشاركة، حصد بايدن أعلى أصوات فى تاريخ الانتخابات الأمريكية، محققا 74 مليون صوت حاسم، ومحطما الرقم القياسى للأصوات الشعبية التى حازها الديمقراطى أوباما فى 2008. فبعد اكتساح الديمقراطيين لميشيجان وويسكونسن، آلت ولاية بنسلفانيا، التى تعد رقما صعبا فى لعبة الحسم إلى بايدن؛ وأضحت جورجيا ولاية متأرجحة، كما تحولت أريزونا الحمراء إلى زرقاء بعدما اقتنصها بايدن بفارق يتخطى أحد عشر ألف صوت فى سابقة لم تحدث منذ العام 1996. وانفرد الديمقراطيون بتقديم أول سيناتورة سمراء عن ولاية ميسورى، واثنين آخرين عن ولاية نيويورك، ووفد نساء ملونات بالكونجرس عن نيو مكسيكو، كما أول مسلمة تفوز بالهيئة التشريعية لولاية أوكلاهوما.
توخيا منه لتقويض الترامبية التى ما برحت تتمترس بمجلس الشيوخ، يرنو بايدن لإصدار حزمة من الأوامر التنفيذية الكفيلة بتحرير البلاد من ربقة سياسات ترامب الصدامية وتبعات قراراته التعسفية. وخلال خطاب النصر، الذى يعد مرحلة انتقالية وسيطة بين الحملات الانتخابية والسياسات الرئاسية، جدد بايدن التأكيد على ما نشره بمجلة «فورين أفيرز»، وشكل رؤية تتناقض فى جوانب شتى مع نهج سلفه.حيث ألمح إلى رغبته فى إنهاء الانسحاب الأمريكى من النظام الدولى، وتحرير العلاقات مع الحلفاء من إسار الخصومات الترامبية عبر مصالحة وتطمين شركاء «الناتو»، والأصدقاء خارجه بأن واشنطن لا تزال شريكا مسئولا، فضلا عن استعادة مكانة أمريكا وروحها وصدقيتها، وإبداء استعدادها للقيادة مجددا، ليس بنموذج قوتها فحسب، بل بقوة نموذجها أيضا، وتبديد إيحاءات ترامب بأنها صارت «بندقية للإيجار»، كما وعد بعقد قمة للديمقراطيات يجدد خلالها التزام بلاده بالديمقراطية والتعددية القطبية، علاوة على توحيد الأمة الأمريكية وإعادة بناء عمودها الفقرى المتمثل فى طبقتها الوسطى.
على عكس الترامبية، تتحلى «الموجة الزرقاء» بشىء من المرونة. فخلال مسيرته السياسية الحافلة، قام بايدن بمراجعات فكرية وسياسية لمواقف سابقة، اعترف على إثرها بخطأ تأييده غزو العراق عام 2003، كما تخلى عن التمسك بمواصلة إثارة ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان بالصين، اقتناعا بجدوى تحييد ذلك الملف الشائك توسلا لتعظيم مغانم واشنطن من علاقات حيوية لكنها مفخخة مع بكين. وهى المراجعة التى ربما يرتد صداها بالشرق الأوسط. كذلك، لم يحل اجتياح «الموجة الزرقاء» للترامبية، دون إبقاء بايدن الباب مواربا أمام إمكانية الاستفادة من بعض مغامرات ترامب الخارجية، التى خلفت هوامش مناورة، يمكن الاستعانة بها، فى التعاطى مع ملفات عالقة ومعقدة وممتدة، كتقاسم الأعباء مع الشركاء الأطلسيين، وترويض الصين وروسيا وتركيا، وكبح جماح إيران وكوريا الشمالية، وتجاوز المعضلات المزمنة بالصراع العربى الإسرائيلى، إضافة إلى تحسين شروط التجارة مع الشركاء والخصوم على حد سواء.