ولأن الحكم فى مصر يحاصر كل تنظيم مستقل وكل صوت حر ولا يرى فى تداول المعلومات والشفافية والاختلاف فى الرأى سوى مصادر لتهديد أمن البلاد، فإنه يفتقد اليوم للوسطاء الجادين الذين يستطيعون تحقيق التواصل بينه وبين الناس ويقدرون على شرح خلفيات السياسات الرسمية وعلى التعبير الدقيق عن مطالب ومخاوف القطاعات الشعبية المختلفة.
لا أتحدث هنا عن سياسات رسمية واجبة الإدانة كتلك المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان والحريات وسطوة الأجهزة الأمنية على المواطن والمجتمع. كما أننى أعنى بالقطاعات الشعبية التى لا تجد من يعبر بدقة عن مطالبها ومخاوفها الأغلبية الساحقة من الفقراء ومحدوى الدخل، وليس الفئات القادرة اقتصاديا والمتميزة اجتماعيا المتحالفة مع الحكم والحاضرة بقوة فى أولوياته واختياراته.
منذ صيف ٢٠١٣، والحكم فى مصر يحاصر العدد القليل من الفاعليات النقابية والعمالية والمهنية التى ترفض التخلى عن استقلالها أو التوقف عن الدفاع عن حقوق أعضائها. ويتكرر ذات الحصار إزاء منظمات المجتمع المدنى غير المستتبعة أو المدارة أمنيا، وكذلك إزاء العدد المحدود من الأحزاب السياسية التى لم تتخل عن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية كمطلبين رئيسيين وتمتنع عن الصمت على الممارسات الممنهجة للعنف الرسمى وما ترتبه من مظالم وانتهاكات متراكمة.
منذ صيف ٢٠١٣، والحكم فى مصر يحكم قبضته على الفضاء العام عبر السيطرة الأمنية على وسائل الإعلام وتوجيهها لتبرير السياسات الرسمية وتسفيه المواقف والآراء المعارضة. كذلك تسيطر الأجهزة الأمنية على «المسخ المؤسسى» الذى حل محل السياسة التى أميتت وأقصيت مضامينها التعددية؛ مشاهد انتخابية زائفة، سلطة تشريعية منزوعة المصداقية تشكلت بفعل تحالف بين الأمن والمال، نقاشات عامة لا شىء بها غير القبح والصراخ.
والحصيلة هى إضعاف مستمر للوسطاء الجادين من نقابات ومنظمات مجتمع مدنى وأحزاب سياسية ووسائل إعلام مستقلة، وغيابهم عن الاضطلاع بدورهم الأساسى المتمثل من جهة فى التعبير الحر عن مطالب ومخاوف الناس والضغط السلمى على الحكم لترجمتها إلى سياسات وإجراءات رسمية، ومن جهة أخرى شرح خلفيات السياسات الرسمية التى لا تتورط فى ظلم أو تشويه وتشجيع الناس على تقييمها بموضوعية.
وعندما يضاف إلى تغييب دور الوسطاء الجادين كارثة نزع المصداقية عن السلطة التشريعية التى تدار أمنيا كما شكلت أمنيا والتجاهل الحكومى لمقتضيات الشفافية فيما خص الشأن العام، تصبح استحالة التواصل الطوعى بين الحكم والناس مسألة حتمية وتعذر قدرة السلطة التنفيذية على إقناع قطاعات شعبية مؤثرة بضرورة تطيبق «إجراءات مؤلمة» اقتصاديا واجتماعيا نتيجة طبيعية للغاية.