شهدت مصر خلال الأعوام الخمسين الأخيرة ثلاثة قرارات اقتصادية ذات طابع (مصيرى) إذا صح التعبير، بمعنى ترتب آثار رئيسية وأخرى جانبية بالغة الأهمية فى تحديد المسار الاقتصادى المصرى.
ــ القرار الأول هو قرار «التأميم» عام 1961 تتويجا لقرارات سابقة بالتمصير والتأميم، والذى ترتب عليه تكوين «قطاع عام» كبير، وخاصة فى المجالين المالى والصناعى، إلى حد أن أصبح القطاع الرئيسى المولد للناتج المحلى الإجمالى. وكان ذلك إيذانا بانعطافة مجتمعية كاملة نحو ما صار يسمى «التحول الاشتراكى»؛ وقد استمرت الحال على ذلك حتى وفاة الرئيس عبدالناصر 28 سبتمبر 1970، وبدأت بعدها انعطافة معاكسة اعتبارا من 15 مايو 1971.
ــ القرار الثانى هو إصدار «قانون استثمار المال العربى والأجنبى» عام 1974، الذى دشن عصرا كاملا لأربعين عاما وزيادة، هو ما قد يسمى عصر «الانفتاح الاقتصادى».
ــ القرار الثالث هو «التعويم الحر» للجنيه أمام الدولار فى الثانى من نوفمبر 2016، وهو قرار، إن استمر تطبيقه كما هو، وذلك أمر غير مؤكد على كل حال، فإنه ستكون له آثار جذرية ذات طابع هيكلى على المجتمع والاقتصاد والسياسة فى مصر المعاصرة، حتى أنه صار من الممكن أن يؤرخ للأحداث الاقتصادية الجارية فيقال: (قبل التعويم) و(بعد التعويم)..! وكأنه نقطة فاصلة على مسار التحولات الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة على «المواطن العادى».
وسبق أن عالجنا، والآخرون، طبيعة قرار «التعويم الحر» وآثاره المستهدفة، ولكن هناك جانبا آخر متعلقا بالآثار «غير المدروسة» والتى ربما لم تؤخذ فى الحسبان لدى صانعى القرار الاقتصادى قبل إصداره، والتى تؤثر بالسلب على الحكمة المفترضة من هذا الإصدار.
وفيما يلى رصد لهذه الآثار غير المدروسة أو غير المحسوبة:
أولا: ترتب أعباء إضافية، ربما غير متوقعة تماما، على الموازنة العامة ومنها:
• زيادة فوائد الدين العام وخاصة مع التوسع فى إصدارات أذون الخزانة لتمويل الإنفاق العام.
• زيادة مخصصات الدعم النقدى (كرامة وتكافل..إلخ).
• تعويضات المقاولين فى أشغال الحكومة.
• زيادة أسعار توريد المحاصيل الزراعية.
• وربما زيادة الحد الأدنى للأجور والمعاشات.
ويعنى ذلك أنه بينما كان أحد الأهداف الأساسية للتعويم هو الحد من عجز الموازنة العامة، فإن الأعباء المترتبة عليه تجعل من تحقيق هذه الغاية أمرا محفوفا بالصعوبات، على الأقل.
ثانيا:
الأثر المزدوج لرفع أسعار الفائدة (12.50 على الودائع و 12.75 على القروض فى بداية الأمر ثم رفع معدل الفائدة على الاقتراض مرة ثانية إلى ما يقرب من حاجز 20% فى عدد من البنوك الكبرى):
أــ أثر إيجابى متمثل فى رفع مستوى الإيداعات للقطاع العائلى، وبالتالى: زيادة معدل الادخار الاجمالى بالإضافة إلى زيادة مستوى السيولة المصرفية المتاحة.
بــ أثر سلبى متمثل فى تشجيع تحول فوائض القطاع العائلى وقطاع الأعمال من الاستثمارات الإنتاجية ــ على قلتها ــ إلى الإيداع النقدى بالجهاز المصرفى، بالنظر إلى أن معدل العائد على الاستثمار لا يبلغ عادة مستوى العائد على الإيداع المصرفى.
ولكن من جهة أخرى فإن ارتفاع معدل التضخم السعرى، بصفة عامة، والرقم القياسى لأسعار المستهلكين خاصة، يؤدى إلى تآكل سعر الفائدة الحقيقى على الودائع المصرفية إلى الحد السالب، وذلك بالمقارنة بين سعر الفائدة الاسمى (حوالى 12.50) ومعدل التضخم والذى بلغ 20% تقريبا فى شهر نوفمبر 2016 الذى تم فيه اتخاذ قرار التعويم ثم إلى نحو 25% فى ديسمبر. علما بأن هذا المعدل محتسب بإعطاء الوزن النسبى الأكبر لسلوك الأسعار فى السلع الغذائية، فإذا أعطيت أوزان مكافئة لفئات السلع الاستهلاكية الأخرى، فلسوف يرتفع «الرقم القياسى لأسعار المستهلكين» عن ذلك المعدل المقدر بواسطة جهاز الإحصاء.
وإن انخفاض سعر الفائدة الحقيقى على الودائع المصرفية يعنى انخفاضا فى الدخل الحقيقى للمواطنين من القطاع العائلى القائمين بالإيداع بنسبة اعتماد فئات المودعين عليها كمصدر للكسْب.
***
ثالثا:
يؤدى ارتفاع أسعار الواردات الناجم عن التعويم وعن بعض القرارات الأخرى، إلى أثر ايجابى بصفة أولية، وهو خفض الواردات عن مستواها السابق عموما، وبالتالى خفض حجم العجز التجارى ونسبته إلى اجمالى معاملات التجارة المنظورة وغير المنظورة (أى السلعية والخدمية). ولكن ارتفاع أسعار المستوردات فى حالة الاقتصاد المصرى المعتمد بصفة أساسية على الاستيراد فى توليد نصيب مؤثر من الناتج المحلى الإجمالى، أدى، وسوف يؤدى، إلى نتائج متسلسلة قوية على المستوى العام للأسعار فى الداخل.
ومن المعلوم أن ارتفاع المستوى العام للأسعار، بافتراض بقاء الأشياء الأخرى على ما هى عليه، كما يقال بلغة «الاقتصاد التجريدى»، قد يؤدى إلى انخفاض الطلب الكلى إلى المستوى التوازنى عند نقطة القرب من «التشغيل الكامل». ذلك يمكن أن يصح، ضمن قيود معينة، فى الاقتصاد الرأسمالى المتقدم. ولكن فى اقتصاد نامٍ، غير ناضج جهازه الانتاجى مثل الاقتصاد المصرى، يؤدى التضخم السعرى المتصاعد إلى ركود اقتصادى وإلى اهتزاز فى البنيان الاجتماعى، فى نفس الوقت. فارتفاع الأسعار، خاصة المدخلات المستوردة، يؤدى إلى انكماش الطلب على الناتج، بفعل رفع أثمان المنتجات النهائية والوسيطة، برغم اشتداد الحاجة إليها لسد الاحتياجات الاستهلاكية، ولتسيير دولاب العمليات الإنتاجية. هذه إذن بمثابة تغذية لدورة ركودية ممتزجة بالتضخم، وقد تتحول إلى أزمة مزمنة لما يسمى بالتضخم الركودى.
وفى أجواء الركود المتعمق بالتضخم، يقوم المنتجون ملاك رأس المال ومتحصلو «ريع الندرة» فى قطاع الخدمات المهنية ــ وهم أصحاب «الدخول المتغيرة» كما يقال ــ برفع أثمان المنتجات من السلع والخدمات للتعويض عن أثر ارتفاع القيمة النقدية للمدخلات. هذا، بينما يتحمل كاسبو الأجور والمرتبات ــ أو ذوو «الدخول الثابتة» ــ الزيادات السعرية المتتالية دون أية مقدرة على إحداث رد الفعل الموازن، وخاصة بفعل انخفاض «المرونة السعرية» على المنتجات الضرورية للمواطن العادى، أى عدم القدرة على تخفيض الشراء بنسبة ارتفاع الثمن. هذا يؤدى إلى تدهور فى المستويات المعيشية للغالبية الاجتماعية المنتجة، قد يصل إلى حدَ إحداث نوع من الزلزال اجتماعى، توابعه بالغة الأثر عبر الزمن.
رابعا:
قد ارتبط انفلات التضخم السعرى خلال الشهور الثلاثة الأخيرة ارتباطا وثيقا بالتغيير فى سعر الصرف، مرجحا بالمكون الاستيرادى فى الناتج المحلى الإجمالى، وكذا بالتغيير الحادث فى خفض الدعم العينى، وخاصة على الطاقة والمحروقات، إلى جانب أثر الضريبة فيما يتعلق بنواتج فرض ضريبة القيمة المضافة. كما ارتبط انفلات التضخم بالزيادة فى إجمالى السيولة بفعل تزايد اللجوء إلى مبيعات أذون الخزانة كأداة لتدبير المصروفات العامة؛ أضف إلى ذك: الأثر (المتبقى) على معدل التضخم والمتولد من هيكل السوق المحلية المشوه نتيجة لغلبة النزعات الاحتكارية وفوضى المعاملات بعيدا عن الرقابة الفعالة للسلطة العامة.
وقد يشار هنا إلى الاقتراح القائل بإمكان السيطرة على الأسواق وضبط معدلات التضخم فى حال إحداث زيادة فى العرض السلعى من خلال منافذ «وزارة التموين» و«القوات المسلحة»، إلى الحد الذى قد يؤمل منه إحداث التوازن بين العرض والطلب، وبالتالى سيادة ما يسمى «السعر العادل». بيْد أن فرصة نجاح مثل هذا الاقتراح مقيدة إلى حد بعيد بضآلة نسبة المعروض من المنافذ المذكورة إلى إجمالى العرض المحلى فى مصر. وفى المقابل، فإن التعاونيات الاستهلاكية ــ فى تجربة دولة «الكويت» على سبيل المثال ــ تعتبر المزود الأكبر لسلع الاستهلاك الغذائى فى السوق المحلية، مما يمكنها من الهيمنة، إلى حد بعيد، على سلوك الأسعار، وخاصة بالنظر إلى انخفاض هامش الربحية المقدر فى القطاع التعاونى، غير الهادف للربح بطبيعته. أما فى مصر فإن التعاونيات الاستهلاكية لا تملك من الطابع التعاونى غير الإسم، بالنظر إلى تبعيتها لوزارة التموين، فى غيبة من فاعلية ما يسمى بالاتحاد التعاونى الاستهلاكى، إلى ما يقرب من العدم، إذا صح التعبير.
***
لذا، لا نملك إلا أن ننبه إلى ضرورة الأخذ فى الاعتبار الخصائص البنيوية لسوق الاستهلاك المحلى، مما لا يجدى معه الاعتماد على زيادة العرض المقنن من الدولة لضبط التضخم المنفلت، على إثر التعويم الحر للعملة المحلية.
وإنما يجب إحداث التدخل المباشر للدولة، لضبط مستوى وهيكل الواردات أولا، وهو ما تسمح به اتفاقات التجارة العالمية بكل تأكيد، بالإضافة إلى تحديد هامش الربح للسلع المستوردة، مع التدقيق فى (الفواتير المضروبة!) كما يقال. كما يتعين وضع أسعار إرشادية قابلة للمراقبة، وأسعار أخرى «تأشيرية» indicative ذات طابع قانونى، على أن تتكفل بالرقابة الصارمة ــ فى أجواء تشبه «اقتصاديات الحرب» ــ كل من أجهزة الدولة ذات الصلة، ومنظمات المجتمع المدنى، على السواء.