نتكلم كثيرا ونعمل قليلا. النقاش لا ينقطع ولا يسفر عن قرار. الاجتماعات تنعقد فلا يعلو إلا الصوت بينما تنحسر النتائج. هل نضجت الأفكار وتراجع العقل المصرى؟ أعترف أننى فى أيامنا هذه كثيرا ما أنتبه لحالى وأنا على شفا حفرة من إحباط، الأمر الذى معه تخبو أنوار بالفعل قائمة على الطريق. الواقع أن ما ينبهنى لهذا ويرغمنى على التراجع إشارات أرى فيها أن الله عز وجل يربت كتفى برفق لألتفت إلى أن الدنيا مازالت بخير وأن الأمل باق مازال فى قلوب وعقول تسعى على الأرض بيننا وإن كانت خافتة الصوت لا تثير جلبة ولا يعلو صوتها، فهم ليسوا بحاجة إلى ظهور.
هذا الأسبوع جاءت لمقابلتى سيدة كريمة تحمل صندوق تبريد صغير بداخله خمسة أمبولات استربتوكايناز وكنت قد كتبت فى «الشروق» أننا بحاجة إليها لاستخدامها فى الطوارئ لإذابة الجلطة. سيدة مصرية عادية لم تشأ حتى الانتظار لإعداد خطاب شكر لها كعادتنا فانصرفت مسرعة وهى تردد لا شكر على واجب. ما الذى حملها على ذلك إلا إحساس صادق قوى بأن عليها واجبا يجب أن تؤديه لمجتمع نعيش فيه وبشر يقاسمونها وطنا يدينون له بالولاء. وإذا سمحتم لى أن أضيف: وإعلام تشغله هموم الإنسان المصرى يدرك أهمية دوره وأبعاد رسالته. قد يكون المثل صغيرا أو بسيطا، لكن ما فيه من صدق يعلق بوضوح أن الفرصة مازالت قائمة إذا ما توافر لنا العزم.
أما الفكرة فقد ساقها لى الأستاذ الدكتور طارق السيد مدير مستشفى الأقصر الدولى. كنت وزملائى في حضور مؤتمر أمراض القلب (كارديو الأقصر) فخطر ببالى أن أتعرف على مستوى الخدمة الطبية فى الصعيد وكان القصد أن أتطوع وزملائى لتقديم أى خبرة نمتلكها. استقبل حديثى بترحاب شجعنى على الاستمرار فى الحديث، فوجدت لديه من الأفكار ما يستوجب الإنصات والتفكير. لم يكتف الرجل بالإمكانات التى منحتها له وزارة الصحة كمستشفى عام يخدم أربع محافظات بل سعى لتطوير الأقسام بسياسة طموح يعتمد فيها على استضافة أطباء متخصصين لقاء مقابل مادى متواضع يقبله الأطباء برضا يعكس لديهم رغبة حقيقية فى تقديم الخدمة بعيدا عن العاصمة.
ما الذى يمنعنا من إعمال العقل بصورة مختلفة لدعم منظومة الصحة فى مصر؟ ما الذى يقف فى طريق المجتمع المدنى ليسهم بقوة وفاعلية فى الارتقاء بنوعية الخدمة الصحية فى مصر؟ إذا كانت الاستراتيجية المركزية أسيرة وزارة الصحة ووزيرها فما الذى يمنعنا من التفكير بصورة تختلف عن مركزية الدولة لا لنتخلف عنها إنما لندعمها وهدفنا الأول هو دعم حق المريض فى العلاج وما ينطوى تحت هذا العنوان من سياسات واقعية ومشروعات تطوعية فى المقام الأول يصوغها ويدعو إليها أطباء مازالوا يؤمنون برسالة الطب الإنسانية يزاملهم كل من يرى أن له دورا أيًا كان حجمه يمكن أن يؤديه بإخلاص.
قد يبدو الأمر حُلما لكننى أراه البديل لما نحن فيه من تراجع. أدعو كل من لديه فكرة أن يشركنا معه فى دراستها والحلم بتحقيقها متى كانت قابلة لأن تتحول لواقع.. وأبدأ بنفسى ــ إن شاء الله ــ فى الأسبوع المقبل.