تعتبر فترة العمارنة أو فترة حكم الملك أخناتون وخلفائه من أكثر الفترات التى تركت بصمتها على الآثار المصرية القديمة، وكذلك من أكثر الفترات التى تعرضت آثارها للمحو. غير أن الحقيقة أن أخناتون هو الذى بدأ مسلسل محو آثار الآلهة الأخرى على اعتبار أن هذا مكون رئيسى فى برنامجه الدينى الجديد، والذى تركز حول معبوده الأثير الإله «آتون» الذى اعتبره الإله الأول، إن لم يكن الأوحد. وقام بنقل عاصمة حكمه إلى مدينة «آخت آتون» (أفق آتون) فى تل العمارنة فى محافظة المنيا فى مصر الوسطى. وكجزء من التحويلات الدينية الكبرى التى حدثت خلال فترة حكمه، قام رجال دولته بحملة منظمة لمحو وطمس عدد كبير من العناصر الدينية فى النصوص والزخارف الخاصة بمعابد معينة ومواقع أخرى فى معظم أنحاء مصر الفرعونية. وتنوعت عمليات الطمس والمحو الخاصة باسم وصورة الإله المهيمن فى وقتها، وهو الإله «آمون»، بالإضافة إلى زوجته الإلهة «موت». وكذلك تم محو كلمات مثل «نثرو» («الإله» فى صيغة الجمع) وكلمة «بسجت» أو «التاسوع» (أى مجموعة مكونة من تسعة آلهة). وأيضا تم إزالة عناصر أخرى بشكل متقطع مثل اسم الإلهة «نخبت» من على معبد أبيه الملك «أمنحتب الثالث» فى الكاب فى أسوان.
***
وأعنى بالمحو هنا هو التخريب والتدمير المتعمد للنصوص أو الصور فى آثار السابقين أو المعاصرين. ومن اللافت للنظر أن وجود محو ما يشير ويدل على محو للمادة الأثرية. ولكنه فى الوقت نفسه يخلق آثارا أخرى ذات طبيعة جديدة مختلفة عن الآثار الأصلية التى أراد لها أصحابها أن تكون على الصورة التى تم محوها. وعندما يتم محو نص أو صورة، يتم استبدالهما بشىء ما، ولكنه شىء جديد تماما. وهذا «الشىء» يكون له حجم وشكل وأسلوب وطريقة فى التنفيذ، وله غرض ومضمون مختلفان. وعلى هذا النحو، يعتبر المحو فنا وعملا فنيا جديدا، ويصير طبقة مضافة إلى طبقة قديمة، ويصبح ذكرى ملموسة لنقطة أو فترة معينة من الزمن. ومن المثير فى الأمر أن تحليل ما قد تم تخريبه وتدميره يقدم معلومات مختلفة من خلال تحليل ما قد تم ابتكاره وإبداعه. وحين نقارن الجديد بذلك الأول الذى تم تخريبه، ربما نتعرف إلى النص الأصلى أو الصورة الأصلية ونعرف الدوافع وراء هذا التخريب. والمحو دليل وإشارة مجسدة لمعتقد ما يمكننا من فهم الدوافع الأيديولوجية الأوسع التى تقاسمها العديد من الثقافات والتى اعتادت على هذه الممارسة من الطمس المتعمد لتاريخ وآثار السابقين. ويثير المحو نفسه أسئلة تاريخية دقيقة مثل لماذا تم هذا المحو؟ وما الدوافع وراء ذلك؟ وهل كان لا بد منه؟ ومن خلال دراسة محو آثار العمارنة، نحاول معرفة عدد الأفراد الذين قاموا بهذا المحو. ونحاول كذلك التعرف على الإطار أو المضمون الذى تم فيه محو تلك الآثار. وكذلك نحاول تفسير ومقارنة المحو المختلف مع بعضه البعض. وعلى الرغم من أن هذه التفاصيل قد تسمح لنا بالمتابعة الدقيقة لآثار وهؤلاء القائمين بالتخريب، فإنها تبدو غير مهمة مقارنة بأسباب المحو والتخريب. ولكن لتلك «الحقائق الدقيقة» رؤى قادرة على تدعيم إدراكنا وفهمنا للعمليات النظرية والثقافية الأوسع التى تكمن خلف ظاهرة المحو.
***
إن تلك المظاهر والملامح معروفة جيدا وغالبة التكرار فى الدراسات المتعددة الخاصة بفترة العمارنة. وكى يتم عمل دراسة عن طمس آثار العمارنة عن قرب وبدقة، يتطلب هذا منا العودة إلى الأسئلة الأساسية. ونعجز عن تفسير كيفية تجديد وتعريف العناصر المتعددة المستهدفة إذا كان تم محوها وطمسها بالفعل. ولحسن الحظ أن القائمين بالمحو كانوا يتركون غالبا آثارا عن عمد أو عمد. وبما أنه فى الغالب يمكن إعادة تشييد وتكوين العنصر المفقود من مضمون المعلومة أو من خلال المقارنة بمناظر ونصوص مماثلة أو موازية سليمة، يتضح لنا أن العديد من عمليات المحو والطمس لآثار العمارنة قد تكون سريعة وسطحية أو منمقة لأنه تظل الكلمة أو الصورة المستهدفة واضحة ومقروءة. فعلى سبيل المثال، نلاحظ الطمس الخفيف لـكلمة «آمون» فى اسم «آمون رع» فى مناظر تقدمة القرابين مما يترك آثارا واضحة للعلامات المستهدفة بالمقارنة مع المحو الأكثر شمولية لبعض الآثار الأخرى. وهى غالبا تكون أخطاء وعدم كفاءة القائمين بالمحو مما سمح لنا بتحديد بذلك. غير أن المثير فى الأمر هو كيفية ارتباط ذلك الطمس المتعدد بفترة العمارنة.
***
قام أخناتون بطرد كل الآلهة المصرية، وعلى رأسهم «آمون» الإله الحاكم فى طيبة، من كل مواقع العبادة من الأرض المصرية، وأعطى الأوامر التى تم تنفيذها كلية. وتم محو كل الأسماء الخاصة بالآلهة من على كل الآثار، حتى داخل المقابر الأفراد. وكان يتم محو أسماء الآلهة وتدمير وتخريب صورها أينما كانت.
هل كان أخناتون يعلم أن نفس المصير سوف يلقاه هو وآثاره بعد أن زرع هذا المحو فى مصر، فطالته اللعنة، وطال الدمار آثاره وآثار خلفائه من بعده والذين عانوا كثيرا بسبب سياساته؟ وهل لو دار الزمان، هل كان أخناتون يفعل ذلك ثانية أم يقلع عن محو آثار الآلهة من أرض مصر؟
مدير متحف الآثارــ مكتبة الإسكندرية