«النيويورك تايمز» ومؤشرات مراجعة للعلاقة الأمريكية الإسرائيلية - هاني شكر الله - بوابة الشروق
السبت 19 أبريل 2025 3:17 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

«النيويورك تايمز» ومؤشرات مراجعة للعلاقة الأمريكية الإسرائيلية

نشر فى : الجمعة 17 أبريل 2009 - 4:31 م | آخر تحديث : الجمعة 17 أبريل 2009 - 4:31 م

 تحت عنوان «نهاية صراع الحضارات»، احتفت افتتاحية «النيويورك تايمز» فى عددها الصادر يوم 11 أبريل بالخطاب الذى وجهه أوباما إلى العالم الإسلامى من أنقرة، بقولها: «حقق الرئيس باراك أوباما تقدما هاما خلال زيارته لتركيا الأسبوع الماضى نحو إعادة صياغة علاقات أمريكا بالعالم الإسلامى. فقد أدار الرئيس ظهره للأساطير السامة حول صراع الحضارات، والتى تلت 11 سبتمبر، وكانت القوة الدافعة وراء الكثير جدا من شعارات الرئيس جورج دبليو بوش وسياساته الكارثية.

ومن جانبى أجد ما يدعو للاحتفاء باحتفاء «النيويورك تايمز»، وبما تشهده الجريدة الأشهر والأكبر فى أمريكا والعالم من علامات صحوة ضميرية، لا فيما يتعلق بسياسات بوش «الكارثية» فحسب (وكانت الجريدة قد تبنتها بحماس، ودافعت عنها، وروجت لها لفترة غير قصيرة من الزمن، بما فى ذلك «أسطورة» امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل)، ولكن مؤخرا فيما يتعلق بإسرائيل نفسها، وهى البقرة المقدسة عند الصحافة الأمريكية الكبرى بأسرها، والتايمز فى مقدمتها، وكان من المستحيل حتى وقت قريب أن يجد المرء فى أى منها ولو بعضا من النقد لممارسات الاحتلال الإسرائيلى من النوع الذى ينشر بشكل منتظم فى صحيفة إسرائيلية كبرى كـ«هآارتس» على سبيل المثال.

ويبدو أن إدراك حجم الخديعة التى وقعت بالشعب الأمريكى عموما، وبتياراته الليبرالية بشكل خاص، على أيدى بوش وتشينى وزمرتهم، قد لعبت دورا بارزا فى الدفع بهذه التيارات، التى يحتل اليهود الأمريكيون وزنا بارزا بين صفوفها، إلى مراجعة ربما تكون أشمل بعض الشىء وأبعد إلى حد ما من مجرد طى صفحة «الرئيس الأسوأ فى التاريخ الأمريكى» (وفقا لما توصل إليه عددا من كبار المؤرخين الأمريكيين)، والقرار بإغلاق جوانتانمو ومراكز التعذيب الخاصة بالسى آى إيه حول العالم، والانسحاب من العراق خلال عام ونصف العام.

ولا شك فى أن الظاهرة شديدة الجدة الماثلة فى الصعود المبهر لأوباما إلى البيت الأبيض، وما عكسته تلك الظاهرة وكرسته من مزاج سياسى وإيديولوجى جديد، ومن ضربة قوية لليمين، وما طرحته من إمكانية غير مسبوقة منذ عقود طويلة لأن تصبح الولايات المتحدة محط إعجاب العالم وليس كراهيته، لا شك فى أن هذه الظاهرة قد لعبت دورا هاما فى الدفع بعملية المراجعة هذه إلى مدى أبعد مما كان مقدرا لها أن تذهب.

أضف إلى ذلك أن إسرائيل «زادتها» للغاية: تشن عدوانا متوحشا على غزة عشية تنصيب أوباما، فتكاد تفسد الاحتفال التاريخى بالرئيس الأسود الأول للولايات المتحدة. جرائم الحرب متضمنة إجبارا فى إستراتيجية العدوان، فلم يكن، كما ادعت إسرائيل، حربا ضد حماس، إنما حربا على أهالى غزة، رجالا وأطفالا ونساء، يلقنون من خلالها درسا فى تبعات تأييدهم لحماس، ليشهد العالم كله على الجريمة من منظمات حقوق الإنسان وحتى السكرتير العام للأمم المتحدة. ثم تزيد إسرائيل الطين بلة فتشكل حكومة مغرقة فى اليمينية والتطرف.

أمريكا تنعطف يسارا، وتلك تتوغل يمينا إلى أبعد مدى، معلنة وفاة اليسار الإسرائيلى، (ولم يبق منه غير زمرة من الانتهازيين، عاشقى السلطة بأى ثمن، من نوع بيريز وباراك). أمريكا تنتخب رئيسا أسود للمرة الأولى فى تاريخها، وتلك تأتى إلى الحكومة بوزير خارجية يدعو صراحة إلى التطهير العرقى لأكثر من مليون فلسطينى يعيشون داخل إسرائيل، ولا يتورع عن تهديد الشعب المصرى بالإبادة الجماعية، بإلقاء قنبلة نووية على السد العالى. الرئيس الأمريكى الجديد يجىء إلى الحكم متعهدا بفتح صفحة جديدة مع العالم العربى والإسلامى وبإطفاء الحرائق التى أشعلها سلفه، ورئيس الوزراء الإسرائيلى الجديد يأتى إلى الحكم متعهدا بإشعال حريق جديد، أخطر وأبعد مدى، فى إيران.

كشفت صفحات «النيويورك تايمز» فى الآونة الأخيرة عن ملامح تحول فى موقف الجريدة، من بينها الافتتاحية المشار لها أعلاه، ومن بينها نشرها مؤخرا لمقال للأكاديمى الفلسطينى ــ الأمريكى جورج بشارات، هو بمثابة عريضة اتهام محكمة لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب فى غزة، ومن بينها بل وفى مقدمتها المقالات الأخيرة لواحد من أبرز كتاب الجريدة، وهو روجر كوهين، يوجه من خلالها نقدا عنيفا لحكومة نتانياهو ولمسعاها لإشعال حريق جديد فى المنطقة من خلال توجيه ضربة عسكرية لإيران، ويدعو فيها إدارة أوباما لمراجعة جذرية للسياسات الأمريكية فى الشرق الأوسط وتجاه القضية الفلسطينية، بما فى ذلك فتح حوار مباشر مع حماس.

إلى أى مدى يمكن قراءة هذه التطورات فى موقف جريدة «النيويورك تايمز» باعتبارها مؤشر لتحول أوسع وأبعد مدى بين ما يمكن أن نسميهم بصانعى الرأى العام فى أمريكا، وربما أهم من ذلك؟ وإلى أى مدى يمكن قراءتها كانعكاس ومؤشر لتحول بين صفوف الليبراليين اليهود الأمريكيين من القضية الفلسطينية ومن إسرائيل؟ ربما يكون من السابق لأوانه أن نجزم بأن تحولا مهما يحدث، ولكن سيكون من فادح الخطأ أن نقلل من أهميته الكبرى إذا ما تبين انه حادث بالفعل.

قامت حرب ــ وليس مجرد صراع ــ الحضارات، التى شنها جورج بوش فى أعقاب هجوم 11 سبتمبر، على أكتاف تحالف ثلاثى عتيد ضم أقصى اليمين الصهيونى والقوى المحافظة المرتبطة بالشركات الأمريكية العملاقة واليمين الأصولى المسيحى، تطابقت فى إطاره مصالح الولايات المتحدة مع المصالح الإسرائيلية كما يصوغها أقصى اليمين الإسرائيلى، بل كادت أن تطرح هذه الأخيرة بوصفها المعيار الحاسم لتعريف المصالح الأمريكية. ليس من المستبعد إذن أن تقود مراجعة هذه الحرب «السامة» وآثارها المدمرة إلى مراجعة أشمل وأكثر عمقا لموقف المثقفين الأمريكيين، ومن بينهم المثقفون اليهود، من دولة إسرائيل ومن سياساتها، وأن تقود مثل هذه المراجعة إلى نظرة جديدة للعلاقة الأمريكية الإسرائيلية أكثر تعقيدا وأشد إبصارا، من تلك التى سادت الوعى والسياسة الأمريكيين لعقود طويلة، فوضعت إسرائيل وسياساتها فى موضع قداسة لا يمس، ولا يخضع لاختبار العقل، لا يماثله أى وجه آخر من أوجه الحياة الأمريكية المعاصرة.

ولعلنا فى النهاية نؤكد أننا لا نطلب من العرب بذل أى جهد لدعم عملية المراجعة الأمريكية هذه، كل ما نطلبه هو أن يمارسوا أقصى ما يكون من ضبط النفس حتى لا يفسدوها. للأسف لا تبشر أى من المؤشرات الحالية بخير فى هذا المجال: الحكام العرب يحرضون أوباما ضد إيران، حماس وفتح تواصلان صراعهما على «عمودية» الضفة الغربية وغزة، وعلى تقسيم أموال إعادة الإعمار، ونحن هنا نستقبل الفنان اليهودى العالمى، دانيال بيرنباوم، بصيحات هستيرية حول التطبيع، بدلا من أن نرحب به مناصرا للحق الفلسطينى ومدافعا عنه، وصديقا من أقرب أصدقاء واحد من أهم المفكرين الفلسطينيين والعرب المعاصرين وأكثرهم نبلا، الراحل إدوارد سعيد.

هاني شكر الله عضو مجلس تحرير جريدة الشروق ، و المدير التنفيذي لمؤسسة هيكل للصحافة العربية ، وهو رئيس التحرير السابق لصحيفة الأهرام ويكلي ، كما أنه عضو مؤسس للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان ، وعضو مؤسس وعضو مجلس إدارة المركز العربي الأفريقي للأبحاث.
التعليقات