الجميع من خطباء مساجد إلى صحفيين متقاعدين إلى ثوار ومطربين شباب باتوا على قدم المساواة خبراء فى التحليل الاستراتيجى، لكنهم يشبهون جميعا منتجات المياه المعدنية والسمن الصناعى، أسماء كثيرة وعبوات عديدة لمنتج أو محتوى واحد، وكأنهم عن بكرة أبيهم ينطلقون من مستودع تعبئة واحد.
وعلى ذلك، ما إن تم الإعلان عن خطف جنود مصريين فى سيناء، انطلقت جوقة الخبراء الاستراتيجيين لتردد نصا واحدا فى توقيت واحد، دون أدنى اختلاف أو تمايز فى الأداء والتوزيع الموسيقى.. وبالتالى لا فرق بين إمام مسجد وقيادى حزبى وإعلامى ضليع فى التحليل، كما كان نجيب الريحانى (الأستاذ حمام) ضليعا فى قواعد اللغة العربية.
ولا تختلف هذه المجاميع اللطيفة فيما تقدمه من بضاعة استراتيجية تحليلية لا يتسرب إليها الشك أبدا، تقوم على أن «حماس» رمز المقاومة الفلسطينية وراء خطف الجنود لإحراج وزير الدفاع، وأن العملية مدبرة بينها وبين الرئيس الإخوانى وجماعته بهدف الإطاحة بالفريق أول عبدالفتاح السيسى، ومن عجب أن هذه التحليلات العميقة الفظيعة تأتى وحبر اتهامات أصحابها لوزير الدفاع بالتأخون والانحياز لشرعية الرئيس على حساب أحلام عصافير المعارضة المتطلعة للحكم لم يجف بعد.
إنها نفس الذهنية المشوشة التى لم تتوقف يوما عن محاولات تعويض عجزها الفكرى وضمورها السياسى بالارتماء فى أحضان المؤسسة العسكرية، أو مؤسسة القضاء، كى تتفرغ هى للكلام والسفسطة والتغريد والنواح والعديد والتنديد.. فبدلا من أن تحاول خلق مساحات من الاحترام والشعبية لها فى الشارع، تلجأ إلى الاختباء خلف الجيش والقضاء كى يخوضا لها معاركها ويأتيا إليها بالسلطة على صينية مذهبة ومعها لبن العصفور بالمرة.
وبتعبير المستشار الجليل طارق البشرى فى ندوة شرفت بمشاركته فيها بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية أول أمس فإن جميع الأحزاب والجبهات فى مصر بعد الثورة تمارس عملا دعويا وليس نشاطا سياسيا بالمفهوم العلمى الدقيق للعمل السياسى، يستوى فى ذلك الإسلاميون، بتنويعاتهم والعلمانيون بدرجاتهم، ولذا لا يتوقفون عن محاولات إقحام جهتين ينبغى أن يظلا دائما وأبدا بعيدا عن التسييس فى أتون الصراع السياسى ومعاركه الصغيرة.
والملاحظ فعلا أن الخطاب الذى تطرحه النخب ــ المفترض أنها سياسية ــ فى مصر هو خطاب دعوى يفتقر إلى أبسط عناصر البرنامج السياسى القادر على إقناع الشارع بأصحابه كبديل محترم للحكم قادر على إحداث تغيير فى حياة الناس، ولذا يلجأ هؤلاء الدعاة المدعون إلى التعلق بثياب الجيش والقضاء ليخوضا لهم معاركهم، ومن ثم فالكل إلا من عصم ربك من الطفولة السياسية المتأخرة يتحدثون باسم المؤسسة العسكرية أكثر بكثير مما يتحدثون باسم أنفسهم، والأمر ذاته فيما يتعلق بمؤسسة القضا, غير أن الخطر الأكبر أن هذا اللهو غير البرىء من نخب سياسية مهترئة يلقى فى بعض الأحيان استجابة ممن يفترض أنهم يجب أن يكونوا الأحرص على النأى بأنفسهم عن الوقوع فى هذا البحيرة الآسنة، متزلجين على ألواح السياسة فتكون النتيجة كما ترى: الاستيقاظ كابوس مزعج مثل مقتل الجنود فى رفح قبل عدة أشهر، أو اختطاف جنود آخرين فى سيناء أمس.