لا داعى لكل هذه السفسطة الدبلوماسية والاعلامية حول الوحشية الاسرائيلية ضد المدنيين المحتجين فى قطاع غزة، تلك الوحشية التى يطلقون عليها فى القاموس السياسى اسم أو مصطلح «القوة المفرطة»، ولنضعها فى موقعها الصحيح من السياق الدولى والاقليمى للتعامل مع القضية الفلسطينية فى الحاضر، وفى المستقبل القريب.
يدخل ضمن السفسطة الحديث عن حق اسرائيل ــ مثلها مثل أى دولة ــ فى الدفاع عن حدودها، فى حين لا يصدق أحد فى العالم إلا المتذرعين بهذا الحق أن مسيرات الاحتجاج الفلسطينية فى القطاع كانت تخطط لاجتياح الحدود، وباعتراف المصادر الاسرائيلية نفسها، فإن من حاولوا فتح ثغرات فى السياج الحدودى كانوا بضعة أشخاص يقومون بعمل رمزى، ويدخل ضمن السفسطة أيضا تحميل حركة حماس وحدها مسئولية الدماء الغزيرة المهراقة فى هذه الأحداث، كما لو أنه لا توجد أسباب أقوى من تحريض حماس تدفع الشعب الفلسطينى فى غزة وفى الضفة، وفى كل مكان فى العالم إلى التحرك والاحتجاج، خاصة فى ذكرى النكبة، والاحتفال بنقل السفارة الأمريكية فى اسرائيل من تل أبيب للقدس، مع الانتباه إلى أن شدة بؤس الأوضاع المعيشية فى غزة تحت الحصار المستمر منذ سنوات طويلة تكفى وحدها لاشتعال الاحتجاجات بمناسبة، وبغير مناسبة.
من ثم فإنه قبيل السفسطة أيضا الحديث المستمر فى بعض العواصم والدوائر العربية عن عبثية هذه التحركات الجماهيرية، بدعوى أنها لاتفيد القضية بشىء، ولكن – على العكس – تجلب القتل والمعاناة، وهنا بالضبط تظهر الدلالة الحقيقية للقرار الاسرائيلى بمواجهة الاحتجاجات الفلسطينية الشعبية بالقوة المفرطة، أو بهذه الوحشية، المقرونة بغطرسة معهودة فى النظم الاستعمارية العنصرية، على نحو ما هدد به رئيس لجنة الدفاع فى الكنيسيت قائلا: «إن لدى جيشنا رصاصات تكفى كل الفلسطينيين».
ما هى تلك الدلالة؟
لنتذكر من طالب الفلسطينيين مؤخرا وعلنا بأن يقبلوا ما يعرض عليهم، وإلا فليصمتوا.
فبما أنهم لم يقبلوا ما يعرض عليهم، وهو ما لا نعرف عنه الكثير بصفة رسمية، فقد كان الواجب – طبقا لهذه النصيحة – أن يصمتوا، ولن يكون أدل على حسن سيرهم وسلوكهم من التزام الصمت أمام حفل افتتاح السفارة الأمريكية فى القدس، وما دام أنهم لم يحسنوا السير والسلوك، فإن القوة المفرطة، وحمامات الدم، مع سكوت عربى متواطئ أو غير متواطئ... كل ذلك سيؤدى عاجلا أو آجلا إلى تعليم الفلسطينيين فضيلة الصمت، وإجبارهم على التعود عليها، وهو ما سيؤدى بدوره إلى قبولهم لما يعرض عليهم، ذلك الذى قلنا إننا لا نعرف عنه الكثير، لأن خطة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب للسلام فى الشرق الأوسط، والمعروفة بصفقة القرن، لا تزال حبيسة الأدراج، فى انتظار اللحظة التى يراها مناسبة لإطلاقها، ومن شروط تلك اللحظة أن تكون كل الأطراف مهيأة لقبولها.
ولما كان الجزء المعلوم بالضرورة من صفقة القرن هو بقاء القدس موحدة وعاصمة أبدية لاسرائيل، وتأكيد ذلك أمريكيا بنقل السفارة إليها، فإن احتجاج الفلسطينيين على الاحتفال الاسرائيلى الأمريكى بهذا الحدث يوفر ظرفا خاصا ومشجعا بل ومحتما لإجبارهم على الاختيار ما بين القبول أو الصمت، بالقوة المفرطة، على أن تتكفل السفسطة الدبلوماسية والاعلامية بتوفير الذرائع القانونية والسياسية والأخلاقية، وتسويقها للمتلهفين عليها من أصدقاء وحلفاء اسرائيل القدامى، والجدد من العرب أنفسهم.
ولكى يكتمل الصمت الفلسطينى كان على الولايات المتحدة عرقلة أى تحرك من مجلس الأمن لمواجهة الوحشية الاسرائيلية ضد المدنيين فى غزة، ومع أن مساندة اسرائيل فى الأمم المتحدة، وحمايتها من أية قرارات واجبة التنفيذ من المجلس هى سياسة أمريكية ثابتة، فإن الاجتماع الأخير شهد سابقة – لعلها الأولى من نوعها – وهى انسحاب المندوبة الأمريكية من هذا الاجتماع، بمجرد ما ان بدأ المندوب الفلسطينى فى إلقاء بيانه، فى رسالة واضحة الدلالة على أن واشنطن سوف تهمل «الصوت الفلسطينى» من الآن فصاعدا، وهذا تطبيق آخر لسياسة القبول أو الصمت، المفروض على الفلسطينيين الاختيار بينهما.
كان ذلك بيانا للموقع الصحيح للقرار الاسرائيلى المنسق حتما مع واشنطن باستخدام القوة المفرطة ضد مسيرات الاحتجاج الشعبية الفلسطينية، فى سياق الاعداد لصفقة القرن، وتفسيرا لأسباب هذا القرار، ولكن توجد إلى جانب هذا التفسير أسباب أخرى مكملة، وترتبط بالأوضاع السياسية الداخلية فى كل من اسرائيل والولايات المتحدة، حيث يواجه الرئيس ترامب، وبنيامين نتنياهو رئيس وزراء اسرائيل مشكلات قانونية، يمكن أن تؤثرعلى المستقبل السياسى لكل منهما، إذ تتواصل التحقيقات حول تورط نتنياهو فى عمليات فساد مالية، واستغلال نفوذ، وتتواصل التحقيقات حول مدى علم أو ضلوع ترامب فى التدخلات الروسية فى مجريات حملات انتخابات الرئاسة، التى جاءت به إلى البيت الأبيض، وفى الوقت نفسه يواجه كل منهما منافسات قوية محتملة من داخل حزبه، ومن خارجة فى الانتخابات القادمة.
ومن قبيل التشابه أيضا بين ترامب ونتنياهو أن كلا منهما يستمد قوته السياسة من اليمين القومى والدينى المتطرفين، ولذا فإن مواجهة الفلسطينيين بأقصى العنف، فى مناسبة نقل السفارة الأمريكية (فعليا) إلى القدس يخدم المصالح السياسية لكل منهما.
ومما لاتخفى دلالته على أحد أن الرئيس الأمريكى الذى لم يشأ أن يحضر احتفال نقل السفارة، هو الذى اختار بنفسه قسيسا شديد التطرف ليترأس الصلاة الافتتاحية لذلك الاحتفال، هو القس روبرت جيفرز (من ولاية تكساس )، الذى لا يتردد فى القول علنا فى مواعظه فى الكنيسة، وعلى الشاشات، أن الاسلام دين زائف، وأن نبيه سفاح، وأن جميع الأديان زائفة، ولا خلاص لمعتنقيها، ماعدا اليهودية والمسيحية.
وعلى الرغم من أن ترامب نفسه لا يكن أى ود للإسلام والمسلمين، فإن اختياره لجيفرز يستهدف بالدرجة الأولى تأمين تأييد اليمين المسيحى الأمريكى لحزبه فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس فى نوفمبر المقبل، وله فى انتخابات الرئاسة المقبلة، وكذلك تأييد منظمات وجماهير حركة الصهيونية المسيحية، والمنظمات اليهودية اليمينية فى الولايات المتحدة.
بقى أن نسجل فى ختام هذه السطور أن السفسطة الدبلوماسية والاعلامية حول تلك الوحشية الاسرائيلية ضد المدنيين العزل فى قطاع غزة والصفقة ــ والتى اشترتها دوائر عربية عديدة ــ لم تلق رواجا فى أى مكان آخر فى العالم، فقد رفضتها جميع دول الاتحاد الأوروبى حكوميا وحزبيا و شعبيا، وكذلك جميع الدول الأعضاء فى مجلس الأمن (عدا الولايات المتحدة بالطبع) ومعظم الوكالات والمجالس التابعة للمنظمة الدولية، من مجلس حقوق الإنسان، إلى لجنة الأمم المتحدة للحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطينى، وكما نعلم فقد قرر الأوروبيون مساندة تحقيق دولى فى أحداث غزة، واستدعت دول أخرى سفراءها من اسرائيل، فضلا عن المقاطعة الدولية شبه الإجماعية للاحتفال بتدشين السفارة الأمريكية فى القدس، ولذا فالفلسطينيون ليسوا مجبرين على الاختيار بين القبول المذعن، وبين الصمت الذليل، لأن العالم كله يسمعهم عدا اليمين الأمريكى واليمين الاسرائيلى، والمجهدين العرب.. الذين يحسبون ترامب ونتنياهو طوقى نجاة.