ما هى إلَّا بضعة أيام قلائل كان لنا حظ قضائها خارج القاهرة بمناسبة عيد الفطر، شطر منها فى إحدى بلدات الريف، وشطر آخر فى ثغر الإسكندرية.. ومنها نشتق عددا من الملاحظات والتأملات التى أوحى بها المقام القصير.
فأما البلدة الريفية فقد أوحت لنا بثلاث ملاحظات ذات طابع اقتصادى ــ اجتماعى ــ إدارى وربما سياسى أيضا، فى البعد التاريخى.
الملاحظة الأولى تتعلق بما كنا خشيناه فإذا به يصير واقعا محققا، ونقصد ما أدى إليه التزايد السكانى السريع فى مصر بمعدل نمو ديموجرافى مرتفع نسبيا بما يتراوح بين 2.50%و 2.25% تقريبا خلال السنوات الممتدة منذ 2011 حتى 2016، وهو أحد أكبر المعدلات فى الدول النامية وفى الوطن العربى. وكان هذا المعدل قد شهد هبوطا نسبيا خلال عقد 1996 ــ 2006 وحتى 2010 بعد القمة التى استوى عليها فى أواخر الثمانينيات بمعدل بلغ نحو 3% (2.94% عام 1988: الكتاب الإحصائى السنوى 2017، الصادر عن الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، القاهرة، جدول 3 ــ 1). تزاوج ذلك مع معدلات منخفضة للنمو الاقتصادى الكلى وخاصة فى الأقاليم الريفية، مع المعدل المنخفض للنمو فى القطاع الزراعى ومعدلات الاستثمار، إلى جانب ضيق المساحة الزراعية الأرضية.
وإنما حدث ضيق فى المساحة الزراعية بفعل التوسع العمرانى اللاهث بما يأكل الأخضر واليابس، زحفا على النطاقات التى كونها طمى النيل بخصوبة التربة عبر آلاف السنين من التاريخ المكتوب لواحد من أقدم المجتمعات «الهيدروليكية» فى العالم.
نحو مليونَىْ فدان من تلك الأرض «التاريخية» تبددت فى البناء السكنى على امتداد الريف المصرى فى الوجهين القبلى والبحرى خلال نصف القرن الأخير على وجه العموم.
ولولا ما تم استصلاحه على دورات متتابعة، منذ ثورة الاستصلاح والاستزراع الأولى لثورة 23 يوليو 1952 وحتى 1970، من خلال مشاريع «الوادى الجديد» و«مديرية التحرير»، وفى بقع غير ذلك؛ لولا ذلك لما بقيت مساحة الأرض الزراعية المصرية فى حدودها القائمة (6.2 مليون فدان من الأرض القديمة + 2.9 من الأرض الجديدة عام 2015: الكتاب الإحصائى السابق، جدول 5 ــ 1) بحيث عوض المضاف إلى الأرض فاقدها ضمن هامش معين.
ولنعلم أن التوسع الزراعى فى مصر ترد عليه قيود من الطبيعة شديدة، أبرزها القيد المتعلق بمحدودية الموارد المائية، فى ضوء تواضع حصة مصر من مياه النيل (55.5 مليار متر مكعب سنويا مقابل 18.5 مليار للسودان وفق اتفاقية 1959 بين البلدين مع الأخذ فى الاعتبار رد 6 مليارات متر مكعب كانت تستفيد بها مصر اتفاقيا من حصة السودان حتى عام 1977).
ولولا ما تم من جهد كبير فى إدارة الموارد المائية، من خلال إعادة استخدام مياه الصرف الزراعى، والاستفادة من مخزون المياه الجوفية الذى يبدو شحيحا على كل حال، لازداد حرج الموقف المائى بأكثر مما هو عليه.
***
نعود إلى أصل هذه الملاحظة الأولى المتعلقة بارتفاع معدل النمو السكانى مقابل ضيق المساحة الزراعية، لنشير إلى أن ذلك أدى ــ ويؤدى ــ إلى نزوح ريفى تشتد وتيرته نحو مناطق الاستصلاح والاستزراع الجديدة، مثل «النوبارية» وغيرها، وإلى امتهان أنشطة غير فلاحية فى المجتمع الريفى نفسه، وكذا الانتقال صوب العمل فى مشروعات البنية الأساسية والطرق الرابطة بين محاور الوادى، وبين القاهرة وما حولها من مدن جديدة هنا وهناك... أو إلى العمل فى الوظائف الهامشية فى المدن الكبرى، لاسيما القاهرة والاسكندرية.
ولاشك أن الاعتداء على النطاق القابل الزراعة، وتجاوز النطاق العمرانى المحدد، فى غياب تعريف نهائى ومستقر لـ«الأحْوِزة العمرانية» فى المدن والقرى، يؤدى إلى ارتفاعات (فلكية) فى أسعار أراضى البناء فى ضوء التقلص الطبيعى لها، والملاحقة الحكومية بين الفيْنة والأخرى.
ومما له صلة وثيقة بذلك، اشتداد وتيرة البحث عن فرص عمل خارج الأرض الزراعية، فى وسط اقتصادى ــ اجتماعى حساس، بفعل الظروف المصاحبة لثورة 25 يناير 2011 وما بعدها، من حيث التأثير على معدل النمو الاقتصادى الكلى.. وأنه حتى مع الارتفاع الأخير فى المعدل المذكور، وخاصة بالمعيار الاسمى، فإنه لا يتحقق من باطن الأنشطة الأعلى إنتاجية فى الأجل الطويل، وخاصة الصناعة التحويلية والإنتاج الزراعى، بقدر ما يتم من خلال أنشطة أخرى أبرزها أنشطة البناء والتشييد المختلفة، وخاصة فى مجال المرافق العامة والبنى الأساسية وبناء المدن، بالإضافة إلى أنشطة الاتصالات والمواصلات.
والشىء بالشىء يذكر، فإن الملاحظة الأساسية المتعلقة بضيق المساحة الزراعية، وتزايد حرج القيْد المائى، مقابل التوسع فى أنشطة المرافق والبنى الأساسية وبناء المدن، كل ذلك يؤدى بنا إلى ملاحظة وثيقة الصلة، وإن كانت تناقض ما سبق، ولو من حيث الظاهر فقط. نقصد بذلك أن القرى المصرية المحيطة والمنبثة فى الوادى القديم، فى الوجهين القبلى والبحرى، تعانى من ظاهرة مزدوجة هى: شح المياه الموجهة لكل من الاستخدام المنزلى والاستخدام الانتاجى ــ الزراعى.. من جانب أول.. وسوء حالة البنية الأساسية نسبيا، بالمقارنة مع الحضر، وخاصة مرافق المياه والصرف الصحى والكهرباء، من جانب ثان.
ومن الظواهر المألوفة أن تجد القنوات المائية (الترع) فى معظم فصول السنة، تقترب من حالة الجفاف، وعلى الأقل، دون الحد الأوسط، وربما دون الحد الأدنى اللازم لمواصلة الإنتاج الزراعى بكفاءة، وخاصة فى ظل عدم التوسع فى وسائل الرى غير التقليدية فى القرى (القديمة) مثل الرى بالرش و«التنقيط». ويشار هنا، بالمناسبة، إلى تناقص كمية مياه الرى المستخدمة للمحاصيل الزراعية من 40.9 مليار متر مكعب عام 2006 إلى 36.7 مليار متر مكعب عام 2105 (الكتاب الإحصائى السابق، جدول 5 ــ 16).
ومن الظواهر المألوفة أيضا تكرار انقطاع المياه عن المساكن ــ محدودة الطوابق بطبيعتها ــ حتى فى أيام (صيام رمضان) على مقربة زمنية شديدة من عيد الفطر، وهذا ما خبرناه بأنفسنا خلال الأيام السابقة على عطلة هذا العيد.
وملاحظة ثالثة مرتبطة بذلك، أن أجهزة الإدارة المحلية التنفيذية ــ ودعك الشعبية ــ ضعيفة التأثير فى الحياة الريفية، فيما يسمى هذه الأيام بالحوكمة الرشيدة، وهو ما يتصل مثلا بالمياه والكهرباء الموجهة للاستخدامَيْن الاستهلاكى والإنتاجى، وسوى ذلك فيما يتعلق خاصة بمرافق التعليم والصحة. وهناك حَدِّثْ ولا حرج، عن أحوال المدارس والمستشفيات على الرغم من التحسن الذى طرأ على بعض المرافق الصحية فى السنوات الأخيرة.
ومن الأدلة على ذلك أنه فى ظل أزمة الانقطاع المتكرر للمياه والكهرباء، لا نجد ثمة دورا للإدارات المحلية وللمجالس الشعبية (التى لم تنتخب بعد لعدم إقرار قانونها المعروض على مجلس النواب منذ فترة). وكمْ هو ضرورى أن يعاد النظر فى هيكلة الإدارة المحلية (ولا نقول «الحكم المحلى» لبُعد الشُقة عن الواقع المعيش راهنا) بحيث يتم التفعيل ورفع مستوى الكفاءة، مع تحسين آليات المراقبة والمحاسبة والمساءلة على جميع المستويات.
***
ملاحظة رابعة قادنا إليها حظنا (العاثر..!) فى تلك اللحظة النادرة حين انتقلنا من البلدة الريفية فى محافظة البحيرة، إلى الإسكندرية لنقضى بها يوما أو يومين.
فى مساء يوم الخميس السادس من يونيو 2019 ــ ثانى أيام عيد الفطر مباشرة ــ واجهنا أهوالا شديدة فى المساء للانتقال من أحد ضواحى المدينة (العجمى) إلى شارع الكورنيش ووسط المدينة، ثم العودة. والقصد الأصلى زيارة عائلية وتناول شىء من الطعام. وكانت أهوال ما يشبه (يوم القيامة) فى تلك الليلة، حين اختنقت مدينة الإسكندرية بأهليها وزوارها، واستحال السير، وعدنا دون زيارة حقيقية، ودون طعام، لنعود أدراجنا بعد قضاء الساعات الطوال كل الليل تقريبا وحتى شروق الشمس اليوم التالى، فى محاولة لأن نعود أدراجنا من حيث ذهبنا.
مدينة الإسكندرية تعانى من الاكتظاظ الذى لم تستعد له تخطيطا وإدارة يوما، ولا يتوافر بها من مسارات للحركة الحرة سوى شارع الكورنيش، والشارع الموازى له (شارع جمال عبدالناصر ــ وامتداده «أبو قير»)، مع الحرمان من مشروعات تسهيل المرور كالمحاور الجديدة مثل المتوافرة بالقاهرة، وتلك الجسور المعلقة من حولنا فى العاصمة فى كل مكان تقريبا. ويا له من غياب مدهش لأجهزة الإدارة المحلية ومرفق المرور، فى تلك الليلة الليلاء، ليحل محلها جميعا بعض من (أولاد الحلال) الذين أخذوا على عاتقهم التطوع بتنظيم المرور فى المحاور الفرعية المقفلة.
وهذه الإسكندرية التى كان يجب أن تستفيد من الظهير الصحراوى العظيم حولها فى الاستيعاب المنظم للداخلين الجدد إلى الحياة وإلى أسواق العمل، فإذا بإقليم «مريوط» ــ الذى كان يزود الإمبراطورية الرومانية بالقمح ــ يتحول فى شريطه الساحلى الطويل إلى سلسلة من المنتجعات غير المستغلة ولو فى النشاط السياحى، وليبقى «الساحل الشمالى»، كما يسمى، علامة على فوضى التخطيط العمرانى والاقتصادى خلال الأربعين عاما الماضية وزيادة.
فكيف نستدرك الأمر فى القرى وفى الإسكندرية؟ هذا ما نطرحه على خبرائنا الأجلاء لتقديم محاولات للإجابة عن سؤال الحاضر، باتجاه النظر إلى المستقبل..!