العرب يحلقون شرقا - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 2:31 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العرب يحلقون شرقا

نشر فى : الإثنين 17 يوليه 2023 - 8:20 م | آخر تحديث : الإثنين 17 يوليه 2023 - 8:20 م
انطلاقا من اعتبارات، غلب عليها الطابع الإيديولوجى، شهدت أواسط القرن المنصرم، انعطافة جيوسياسية من قبل بعض الدول العربية، صوب ما كان يعرف، حينها، بالكتلة الشرقية. وخلال الآونة الأخيرة، تبلور توجه استراتيجى عربى عام وممنهج، شطرالمشرق؛ استنادا على حسابات مصلحية واعية، وقراءة حصيفة لصيرورة ومآلات النظام العالمى. فمن خلال تفعيل استراتيجية «التوازن المرن» بين القوى العالمية الكبرى، يتطلع عرب اليوم إلى صيغ أفضل لعلاقات دولية أكثر مرونة وأعظم نفعا، على مختلف الصعد.
بحثا عن «نموذج حوكمة عالمى متعدد الأطراف»، ربما يشكل بديلا مرنا للأطرالتقليدية الغربية المهيمنة منذ عقود؛ تجلى التهافت العربى على عضوية منظمات إقليمية اقتصادية صاعدة كتجمعى «بريكس»، و«شنغهاى». كما توالى نهمهم لتدشين الشراكات الاستراتيجية مع قوى آسيوية كبرى، كمثل روسيا، والصين، واليابان؛ وأخرى صاعدة مثل الهند، ودول آسيا الوسطى. وصولا إلى توثيق عرى التقارب مع الدول الأربعة عشر الجزرية فى المحيط الهادئ.
إبان قمة مجموعة دول «شنغهاى» للتعاون، منتصف سبتمبر الماضى، صرح الرئيس الأوزبكستانى، بأن كلا من مصر والبحرين وجزر المالديف والكويت والإمارات العربية المتحدة وميانمار، ستمنح صفة «شركاء الحوار» بالمنظمة. وخلال قمة «بريكس»، التى استضافتها، كيب تاون أوائل يونيو الفائت، تلقى التجمع طلبات رسمية من دول شتى، لنيل عضويتها؛ كان من بينها مصر، والسعودية، والإمارات، والبحرين، والجزائر، وسوريا، والسودان، وتونس. وفى نفس الشهر، جاءت زيارة الرئيس الجزائرى لروسيا، ثم للصين، منتصف الشهر التالى، والتى وقع خلالهما حزمة اتفاقات، تستهدف تعميق «الشراكة الاستراتيجية» معهما فى شتى المناحى. وفى يونيو الماضى أيضا، أتت زيارة الرئيس الهندى لمصر، لترتقى بالعلاقات التاريخية والمتشعبة بين البلدين إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة. وفى العاشر من الشهر الحالى، احتضنت موسكو، الاجتماع الوزارى المشترك السادس للحوار الاستراتيجى بين مجلس التعاون الخليجى وروسيا، لتطوير التعاون على أساس استراتيجى ومنهجى.
أخيرا، بدأت دول خليجية، تولى اهتماما لافتا بدول جزر الباسيفيك الصغيرة النامية؛ التى تمثّل 12 صوتا من بين الأصوات الـ55 المخصصة لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ بالأمم المتحدة؛ فيما غدت ساحة للتنافس بين القوى العظمى. ففى يونيو 2010، استضافت، أبوظبى، الاجتماع الوزارى المشترك الأول، لتلك الدول وأعضاء الجامعة العربية. والشهر الماضى، احتضنت، الرياض، الاجتماع الثانى، الذى تمخض عن «إعلان الرياض»، وأكد الالتزام المشترك بتطوير الشراكة البناءة بين الجانبين، بما يعزز «تعاون جنوب ــ جنوب». كما شدد على العمل المشترك لتنفيذ اتفاق باريس المناخى، والالتزام بالقانون الدولى، والتقييم العلمى، المستقل، والقابل للتحقق؛ بغية حماية المحيطات، ومواردها، وصيانتها، وإدارتها بشكل مستدام. علاوة على توفير التمويل، ونقل التكنولوجيا الصديقة للبيئة، توطئة لتنفيذ الانتقال العادل نحو اقتصاد متوافق مع البيئة. وأبدى ممثلو الدول المشاركة رغبة ملحة فى إقامة شراكات سياسية واقتصادية بين الدول العربية ودول جزر الباسيفيك فى مجالات متنوعة. وتوافق المؤتمرون على ضرورة التنسيق بشأن التعاطى مع القضايا المطروحة على جدول أعمال الأمم المتحدة، كما سائر المنظمات الدولية والإقليمية الأخرى. فضلا عن إبرام مذكرات للتفاهم، وإقامة منتدى لتعميق التعاون فى مجالات: الأمن والطاقة والتجارة والاستثمار والخدمات اللوجستية، وتفعيل دور القطاع الخاص.
عبر موقعها الجيوسياسى الحيوى، تتيح دول آسيا الوسطى فرصا هائلة لربط العرب بشبكة الحزام والطريق الصينية العابرة إلى أوروبا، من خلال ممرات ثلاثة فى كازاخستان. حيث تحتل الاخيرة، المرتبة التاسعة عالميا فى إنتاج الفحم، والسابعة عشرة فى إنتاج البترول، والرابعة والعشرين فى إنتاج الغاز. ناهيك عن غناها بالمواد الأولية النادرة، التى تقوم عليها صناعات التقنية العالية، مثل الإلكترونيات، والصناعات الفضائية، والطاقة النووية، والطب، والأسلحة الذكية، وصناعات تخزين البيانات، ومعالجتها ونقلها. ومن المتوقع أن تتعاظم الأهمية الاقتصادية لتلك الدول مستقبلا؛ سواء بجريرة زيادة الطلب المتوقع على مخزوناتها من المواد النادرة، واحتياطياتها من موارد الطاقة، أو جراء توسع نشاطاتها الاقتصادية على وقع خطة الحزام والطريق الصينية. ومع تركيزها على خيار النهوض الاقتصادى، عبر جلب استثمارات أجنبية من دول لا تمارس الابتزاز الاستراتيجى أو المشروطية السياسية حيالها، تتفاقم حاجة دول آسيا الوسطى إلى العرب، رغبة فى تسوية خلافاتها الجيوسياسية، وإنجاز مشاريعها التنموية.
تعود بداية مأسسة التعاون العربى ــ الصينى، إلى تدشين «منتدى التعاون» بين الجانبين عام 2004، كإطار للتضامن الجماعى المتكامل. ثم إطلاق بكين عام 2016 «وثيقة السياسات الصينية تجاه الدول العربية»، والتى تتضمن الالتزام بمبادئ التعايش السلمى، واحترام السيادة والمساواة والمنفعة المتبادلة والتعاون فى مختلف المناحى.
واليوم، أضحت الصين، أكبر شريك تجارى للدول العربية مجتمعة، حيث وصل حجم التبادل التجارى بينهما، عام 2022، إلى أربعة أضعاف ما كان عليه قبل 15 عاما؛ إذ بلغ 507.15 مليار دولار. كما شهدت 17 دولة عربية نموا بنسبة 15% فى تجارتها الخارجية مع بكين. وناهزت الاستثمارات الصينية بالدول العربية 214 مليار دولار بين عامى 2005 و2021، لتغدو الصين أكبر مستثمر أجنبى فى العالم العربى. كذلك، أنشأت الدول العربية قرابة 400 مؤسسة تمويل داخل الصين، فيما بلغت استثماراتها الفعلية هناك 1.11 مليار دولار. وشهدت مشاريع التعاون الثنائية بين الجانبين تناميا ملحوظا على صعيدى التكنولوجيا وتطويرالمعدات. وخلال السنوات القليلة المنقضية، انضمت 21 دولة عربية إلى «مبادرة الحزام والطريق» الصينية، وانبرى بعضها فى مواءمة استراتيجياته التنموية معها. وخلال أقل من عام، وقعت قطر مع الصين، أضخم اتفاقيتين متماثلتين فى تاريخ صناعة الغاز المسال. كانت أولاهما، فى نوفمبر الماضى، مع شركة النفط الصينية العملاقة. وثانيتهما، الشهرالماضى، مع مؤسسة البترول الوطنية الصينية، بغية تزويد كل منهما بأربعة ملايين طن سنويا من الغاز الطبيعى، لمدة 27 عاما. ولما كانت الصين تتميز بسوق استهلاكية واسعة، ونظام صناعى متكامل؛ فيما تتمتع الدول العربية بوفرة الطاقة، كما تشهد نموا متسارعا فى تطوير اقتصادات متنوعة؛ تتعاظم حظوظ تعميق الشراكات بين الطرفين، استنادا إلى أسس متينة، ونوايا صادقة، ومزايا تكاملية مشجعة.
على غير المعهود، توالت، خلال السنوات القليلة المنقضية، الملتقيات والقمم الاقتصادية التى تجمع مسئولين، وفنيين، ورجال أعمال عرب بنظرائهم الصينيين. فقبل نهاية العام المنصرم، استضافت الرياض القمة العربية ــ الصينية الأولى، التى اتفق الحاضرون، خلالها حول 24 بندا للتعاون، وتفعيل الشراكة الاستراتيجية. وفى ختام الدورة العاشرة لمؤتمر رجال الأعمال العرب والصينيين، الذى احتضنته الرياض الشهر الماضى، أبرمت الجهات الحكومية والخاصة 23 اتفاقية ومذكرة تفاهم بين الجانبين، تخطت قيمتها الإجمالية عشرة مليارات دولار، شملت 30 صفقة فى مختلف القطاعات. وعقدت البلدان المشاركة فى المؤتمر العزم على ضخ المزيد من الاستثمارات، وتشجيع الشركات والمؤسسات البحثية، للتواصل بشكل دورى؛ بغرض تطوير التحول والتنوع الاقتصادى. وتوصل الجانبان ضمن «إعلان الرياض»، إلى استكشاف المزيد من الفرص الجديدة، لتعزيز التعاون والاستثمار فى المجالات كافة. فضلا عن تدعيم ركائز النظام التجارى متعدد الأطراف، وفقا لقواعد ومبادئ منظمة التجارة العالمية؛ واستكمال التفاوض بشأن تحديث اتفاقيات التجارة الحرة، وحماية وتشجيع الاستثمار.
لم يقف التقارب العربى ــ الصينى عند حدود التعاون الاقتصادى. فدبلوماسيا، حققت الوساطة الصينية اختراقا مهما، حينما تمكنت، فى مارس الماضى، من إبرام اتفاق بين إيران والسعودية لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، بعد سبع سنوات عجاف مفعمة بالجفاء والتوتر. كما عرضت بكين رسميا، على الفلسطينيين والإسرائيليين، القيام بمساعٍ حميدة من أجل إحياء محادثات السلام بينهما. أما على الصعيد العسكرى، فتشهد صادرات السلاح الصينية إلى الدول العربية تناميا ملحوظا، فى ظل امتناع الولايات المتحدة عن تزويد الدول العربية ببعض المنظومات التسليحية المتطورة. وقبل قليل، توصلت دراسة استقصائية لآراء الشباب فى المنطقة العربية، تضمن استطلاع رأى أجرته شركة العلاقات العامة «أصداء بى سى دبليو» فى دبى، إلى أن غالبية الشباب العرب يعتبرون الصين أقرب لبلدانهم من الولايات المتحدة. فبينما جاءت الأخيرة فى المرتبة السابعة، ضمن قائمة الدول الصديقة للعرب، احتلت الصين المرتبة الثانية.
لا تفتأ إدارة بايدن، تؤكد التزام واشنطن عدم السماح بحدوث فراغ جيوسياسى فى أى بقعة من العالم، حتى لا تستغله الصين لأغراض التموضع الجيواستراتيجى.
غير أن الانشغال الأمريكى المتنامى بمنطقة الإندوباسيفيك، والأزمة الأوكرانية، واضطرابات الداخل الأمريكى؛ قد مكن الصينيين من تعزيز حضورهم الاقتصادى، والسياسى، والعسكرى، فى منطقة الشرق الأوسط. كما رفع من سقف تطلعاتهم لملء الفراغ الاستراتيجى الناجم عن انكماش الوجود الأمريكى فى أرجائها. الأمر الذى سيجعل من الإقليم مسرحا لصراع متعاظم ومتشعب، على المصالح والنفوذ، بين بكين وواشنطن، فى المقبل من الأيام.
التعليقات