إن الهدف من الهجمات ضد اليسار ليس الهدف منها المس بمجمّع سياسى وفكرى لليهود. هذه الهجمات هى جزء فقط من إعداد الأرضية لعملية كبيرة وشاملة، موجهة ضد الفلسطينيين. وعلى جانبى الخط الأخضر، يمكن فقط أن نتكهّن بهذه الخطوة، بالاستناد إلى 1948 و1956، وبالاستناد إلى أقوال وتلميحات من الجناح القومى ــ الدينى المسيانى الرأسمالى، الذى يشكل المعسكر السياسى الأقوى فى إسرائيل. هذه الخطوة هى طرد جماعى للفلسطينيين، مؤلف ربما من عمليات طرد أصغر.
لقبول هذا الادعاء يجب الاقتناع بقدرات التخطيط الإسرائيلية. الإسرائيليون الذين يعيشون فى الجانب الغربى من الخط الأخضر من الصعب أن يصدقوا هذه القدرات. هم يواجهون الخمول واللا مبالاة والبيروقراطية السوفييتية فى كل زاوية. لكن الدقة والنظرة البعيدة المطلوبتين من أجل خلق الجيوب الفلسطينية الخانقة شرقى الخط الأخضر والجيوب الفلسطينية الفقيرة والمكتظة بالسكان إلى الغرب منه يدلان على تخطيط يعود إلى سنوات عديدة، وعملت فيه أطراف لها علاقة بالبيروقراطية والجيش والمنظومة السياسية. وشكّل رأس حربة التفكير والعمل الإسرائيلى – اليهودى: حزب البيت اليهودى، وأمانا [حركة استيطانية تابعة لغوش إيمونيم الدينية ــ القومية]، وإلعاد [جمعية يهودية تعمل على توطيد علاقة اليهود بالقدس]، واللجنة الفرعية للمستوطنات فى الكنيست، وجمعية «حتى الآن» [جمعية شبابية يهودية يمينية]، وأمناء جبل الهيكل [جمعية أرثوذكسية يهودية متطرفة مقرها القدس، وهدفها بناء هيكل الملك سليمان مكان المسجد الأقصى] وأشباههم. فى نظر هؤلاء، يجب على الفلسطينيين، فى أحسن الأحوال، أن يشكرونا لأننا سمحنا لهم بالبقاء هنا. اليسار الإسرائيلى هو مخلوق صغير وضعيف ومضطرب، متعدد الأوجه ومليء بالتناقضات الداخلية حتى الاندثار. وهو لا يشمل تكتل المعسكر الصهيونى وحزب يوجد مستقبل أو قائمة بينى غانتس التى تتحدث عنها استطلاعات الرأى: ليس لأنهم إشكينازيون يتمتعون بامتيازات، بل لأنهم سبق لهم أن شاركوا فى مراحل سابقة فى طرد الفلسطينيين: من وطنهم، ومن أرضهم، ومن المؤسسة السياسية فيها ومن مؤسساتهم.
من المفترض أن يكون اليسار اجتماعيا، أى أن يتطلع إلى رفع قيمة العمال فى المجتمع وقيمة الخدمات والنشاطات التى لا تقاس بالمال. اليسار يجب أن يطالب بتخصيص ميزانيات متساوية تشمل اعترافا بالتقصير التاريخى حيال الشرقيين من جانب المؤسسة المابائية [نسبة إلى حزب مباي] والمطالبة بإصلاحه. لكن ليس هناك نشاط أو وعى يسارى من دون فهم وإقرار بأن الفلسطينيين كانوا وما زالوا الهدف الأول والأساسى لهندسة المشاريع الإسرائيلية الديموغرافية، والاقتصادية، والاجتماعية ــ العقارية، والسياسية. هذه المشاريع التى ربح ويربح منها كل يهودى ــ إسرائيلى، على نحو إرادى أو غير إرادى.
لقد نجحت الهجمات اللفظية والجسدية الحكومية والإعلامية: حولت تعريف «اليسار» إلى أمر مكروه وسط أجزاء كبيرة من الجمهور الإسرائيلي ــ اليهودى أكثر من مفهوم الفاشية والعنصرية.
هذه الهجمات لم تؤثر فى إصرار نساء ورجال شجعان فى «تعايش» [منظمة يسارية تدعو إلى التعايش بين اليهود والعرب]، ولا فى منظمة «لنكسر الصمت» [منظمة تضم جنودا خدموا فى المناطق ويعارضون الاحتلال الإسرائيلي]، ومنظمة «حاجز واتش» [منظمة يسارية نسائية تتظاهر ضد الحواجز الإسرائيلية وضد الاحتلال]، وفوضويين ضد الجدار وأشباههم، منظمة «نرفض ونتذكر»، وأكاديميين من أجل المساواة، واللجان الطلابية فى حزب «حداش» و«بلد»، وفروع وناشطى هذه الأحزاب وجزء من ناشطى وأعضاء حركة ميرتس. الهجمات لم تؤد إلى تراجع نشاط منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان التى حاربت الاحتلال ونهب الأراضى طوال سنوات. لكن لهذه الهجمات تأثير مهدئ. فهى تُسكت الآخرين الذين لا يشعرون بالارتياح إزاء تحوّل قطاع غزة إلى معسكر اعتقال يموت فيه الأولاد جرّاء المياه الملوثة، ويتخوفون من القوانين التى تذكّر بحقب غير بعيدة. الأشخاص الذين يعانون صعوبات فى كسب لقمة العيش يفكرون أكثر من مرة قبل أن يعبّروا عن آرائهم أو يشاركوا فى نشاط يؤيد حق القرى البدوية داخل إسرائيل فى الحصول على المياه.
المفترض بالهجمات المسمومة أن تضمن ألا يكون هناك يهود يستعدّون لاتخاذ موقف معارضة. فقط حفنة يهود شجعان موجودة اليوم فى الخان الأحمر. إن نزع الشرعية عن اليسار يقلص من عدد رافضى الاحتلال. ويضمن، عندما يحين الوقت، أن يقوم الجنود المشبعون بإيمان أعمى بعدالة حكومتهم بتنفيذ مهمة هدم وطرد الفلسطينيين، أبناء هذه الأرض.
عميره هاس
هاآرتس