جيل من وراء جيل من الاقتصاديين ومن الطلاب والدارسين لعلم الاقتصاد فى مصر وعموم الوطن العربى و(العالم الثالث السابق)، طوال نصف أو ثلاثة أرباع القرن الأخير، أخذ يجتر، إلى حدّ بعيد، مقولات «الفكر الاقتصادى السائد»، ولا سيما «الفكر الاقتصادى الرأسمالى»، فى جميع حقول البحث التى جرى العرف على تقسيم علم الاقتصاد (النظري) إليها، مثل: الاقتصاد الكلى، والاقتصاد الجزئى، والتجارة الخارجية أو «الاقتصاد الدولى»؛ عدا مجالات الاقتصاد التطبيقى مثل: الاقتصاد الزراعى، والاقتصاد الصناعى، واقتصاديات النقل والتعليم والصحة، وغير ذلك مما تعج به المكتبات المتخصصة.
ولم يعد الكثير من الجيل الراهن من طلاب الدراسات العليا ومتخرّجى أقسام «الماجستير والدكتوراه»، ودعْ عنك طلاب السنوات ما قبل التدرج الجامعى، يعرف بالوضوح والعمق الكافييْن، أن هناك مدارس (أخرى) للفكر الاقتصادى غير ما يعرف. برغم أن هذه المدارس (الأخرى) ذات تراث أكاديمى عميق وعريض، ليس فقط فى إطار التفكير الاشتراكى المعهود، بما فيه الفكر «الماركسى» – القديم والجديد – ولكن أيضا فى إطار أوسع من ذلك وأعمّ مثل الاتجاه «الهيكلى» الذى ينظر إلى الحقل الاقتصادى كفضاء للهياكل الاجتماعية المتجذرة، بمختلف امتداداتها الثقافية والسوسيولوجية.
ولم يعد الكثير من الأساتذة يذكّر الطلبة الجامعيين فى المراحل الأولى والدراسات العليا، وشباب الأكاديميين العاملين فى حقل التدريس أو حقل البحث عموما، أن تلك المدارس (الأخرى) شاعت وذاعت ومارست تأثيرا عظيما على الفكر والعمل طوال قرن أو قرنين، وربما كان أحدثها فى السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم (مثل مدرسة «التبعية»). وإنما هم يذكّرون بما أتاحه الفكر الاقتصادى والاجتماعى السائد، مما يدور حول ما أشاعه اقتصاديو المنظمات الدولية، وخاصة لدى طواقم «صندوق النقد الدولى» و«البنك الدولى»، والمنتديات ومراكز البحث المتخصصة الدائرة فى فلك الدول الغنية والشركات عابرة الجنسيات (خاصة منتدى الاقتصاد العالمى «دافوس»). ومن ذلك، الأعمال الدائرة حول المفاهيم التى ملأت الدنيا وشغلت الناس خلال نصف قرن مضى مثل «الإصلاح الاقتصادى» و«التكيف الهيكلى» و«الفقر» و«التنمية البشرية»، بل و«التنمية المستدامة» التى تسيّدت المسرح الاقتصادى الرسمى خلال العقود القليلة الأخيرة.
***
كانت النتيجة أن انزوت أفكار كانت هى تملأ الدنيا وتشغل الناس من قبل، مثل «العدل الاجتماعى» و«العدالة» عموما التى لم يعد أحد يذكرها باسمها الصريح إلا لماما، ولا يذكرها بجوهرها الكامن، أى: إعادة تصحيح هياكل توزيع الثروة والدخل لصالح الغالبية الاجتماعية الواسعة. وإنما هم يذكرونها بأسماء متخفية مثل «المساواة» و«تكافؤ الفرص» و«الحد من اللا مساواة» و«تخفيف حدة الفقر». وأصبحنا فى حاجة إلى أن يجأر البعض بصرخات كانت مكتومة، ليدبّج آلاف الصفحات حول ذلك، مثل الاقتصادى الفرنسى الشاب النابغ (توماس بيكيتى) والذى بلغ به الطموح حدّ مناطحة كارل ماركس صاحب «رأس المال» باستعارة مكنيّة تدور حول (رأس المال فى القرن الحادى والعشرين).
ولم يعد أحد يتذكر، ويذكّر، بالوضوح والعمق الكافييْن، بمفاهيم (أخرى) عن تنمية (أخرى) غير التى عرف وألف، فيشيع لديهم مفهوم (تقنيّ) ضيق حول «التنمية» فإذا بها أقرب إلى مجرد «النمو الاقتصادى»، وتختفى أضلاع المفهوم التنموى الحقّ الثلاث: أ ــ التحولات الهيكلية الجذرية للاقتصاد الوطنى باتجاه التصنيع والخدمات العلمية ــ التكنولوجية المرتبطة جميعا بالإنسان ومتطلباته المجتمعية الدينامية. ب ــ السير على طريق العدل الاجتماعى الحقيقى من خلال إعادة تصحيح هياكل توزيع الثروة والدخل. ج ــ السعى إلى علاقات اقتصادية دولية قائمة على التكافؤ و«الاعتماد المتبادل». ويُفترض أن تكون هذه التنمية الحقّة جوهرها استعادة إنسانية الإنسان بالمعنى الفلسفى العميق؛ وبما يتجاوز المعنى الذائع الذى تحدث به الاقتصادى الهندى الأمريكى، حائز جائزة نوبل فى الاقتصاد «أمارتيا سن»، وخاصة فى كتابه «التنمية حرية»، الذى اعتبر لدى البعض بمثابة «مانيفستو» (التنمية البشرية).
وربما كان أقصى ما وصل إليه الاقتصاديون المُحدَثون الدائرون فى الفلك العام للفكر الاقتصادى السائد، بطابعه «الرأسمالى» الغالب، هو إعادة إنتاج أفكار سابقة بدون تأصيل كافٍ، كانت انتشرت إبان حقبة الدعوة إلى «نظام اقتصادى عالمى جديد» فى السبعينيات ومطالع الثمانينيات من القرن العشرين، مثل «إشباع الاحتياجات الأساسية»، و«الاعتماد على الذات». وأمّا إعادة تصحيح الفكر الاقتصادى جذريا، باستعادة وجْهه الاجتماعى والسياسى والثقافى، وجهه الإنسانى الحقيقى، فلم يعد يخطر على بال الكثيرين، إلى حدّ بعيد.
هم يتحدثون عن «علم الاقتصاد»، وكأنه علم وضعىّ خالص، بل علم «أدائى» instrumental قائم، إلى حدّ كبير، على مجرد استخدام الأدوات المتقنة للاقتصاد الرياضى والإحصاء والاقتصاد القياسى، وبناء النماذج الكمية.. وهكذا اختفى علم «الاقتصاد السياسى» أو الاقتصاد الاجتماعى، وبرز «علم الاقتصاد» فحسب، كما قال الاقتصادى البريطانى «ألفرد مارشال» (1842ــ 1924). وقد أصبح ذلك، فيما بعد، ديْدن الاقتصاديين فى العالم، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وكتلته (الاشتراكية) فى مطلع التسعينيات.
***
أصبح التطابق (الخاطئ) بين «التنمية» و«النمو» أمرا مألوفا، رغم الفارق الجذرى، حيث التنمية عملية معقدة وشاملة على نحو ما أشرنا، بينما النمو مجرد مفهوم كمّى حسابى يتحصل فى الزيادة الدورية للناتج المحلى الإجمالى، أيا كان مصدر هذه الزيادة. كذلك جرى التطابق (الخاطئ) بين التنمية وبين «الإصلاح الاقتصادى» فيما يسمى ببرامج التكيف الهيكلى التى ذهبت باتجاه تفكيك بنى سابقة للوظيفة الاجتماعية للدولة، وخاصة «القطاع العام»، وكذا تفكيك آثار سياسات اقتصادية مُحِقّة كانت متبعة سابقا ثم تمّ العدول عنها تحت تأثير ساحق من المنظمات الدولية («الصندوق» و«البنك») فى إطار الهيمنة التامّة للنظام الاقتصادى الرأسمالى العالمى. وكانت تلك السياسات السابقة مطبقة فى مجالات الضريبة والدعم والإنفاق الاجتماعى الموسع على التعليم للجميع والصحة للجميع، و«البيت لمن يسكنه»، وكذا فى مجال هيكل التملك: حيث الملكية العامة والتعاونية، و«الاقتصاد التضامنى»، بوجه عام.
ثم ها همْ نسوا أو تناسوا ضرورة تأسيس علاقات اقتصادية دولية قائمة على التكافؤ بين دول العالم بوجه عام، على نحو ما كان يذكر اقتصاديون (تقدميون) بصدد نقد «التبادل غير المتكافئ»» و«التطور غير المتكافئ»، فيما أكده أريجى إيمانويل، وإيمانويل وارشتين، وسمير أمين. وإذا بالعديد من اقتصاديّى هذه الأيام لا يدرون، أو لعلهم يدرون حقا، ولكن لا تكون لديهم «الجرأة العلمية» على اختراق الحُجُب وتجاوز المحرمات المرسومة من دهاقنة الفكر الاقتصادى الرأسمالى العالمى فى مركزه الأوروبى ــ الأمريكى. ولذلك لا يجدون بأسا من اجترار المقولات المكررة حول «تقسيم العمل الدولى»، و«اقتسام منافع التجارة الدولية» ولو على أساس نظرية «الميزة النسبية التقليدية»، فى إطار «سلاسل القيمة العالمية»، دون إنعام النظر فى محتواها الاجتماعى، داخليا وخارجيا. وفى ضوء ذلك، للأسف، يمكن أن يقع تجديد الدوران فى الحلقة المفرغة للتبعية المقيتة تجاه المركز الرأسمالى العالمى.
وهمْ، فضلا عما سبق أيضا، وعلى سبيل المثال المتكرر، يشيرون إلى موضوع «الفقر» ويدرسونه كمحض تفاوت فى مستويات الدخل، أو حتى «مستويات التنمية البشرية»، دون نظر إلى جذره الكامن فى «التفاوت الطبقى» على ميزان الثروة بالذات، وعلى ميزان الدخل أيضا، ليس فقط محليا داخل البلدان الفقيرة، ولكن عالميا بالذات: عالم غنيّ مسيطِر فى مواجهة عالم فقير مسيطَر عليه.
وقضية أخرى مثيرة للجدل حقا هذه الأيام، فيما يقال له «الثورة الصناعية الرابعة»؛ وهى لديْهم تتحصل أساسا فى التحول الرقمى والآلة المفكرة والذكاء الاصطناعى والروبوت والأجهزة الحساسة المستشعرة وإنترنت الأشياء. وما يدرون أن من وراء كل ذلك «استلابا» و«اغترابا« و«تشيّؤا» للإنسان، مما تحدث به بعض الاقتصاديين والاجتماعيين الأوائل، على ضوء من بقايا الشموع المزهرة للفكر الاشتراكى الحقيقى. وغير ذلك كثير مما يكرس وحدانية الفكر الاقتصادى السائد، لا سيما الفكر الاقتصادى الرأسمالى.
لقد كانت خسارة علم الاقتصاد بالذات، خسارة بالغة حقا، من جراء تكريس هذه الوحدانية، وتبعتها أو رافقتها خسارة فى العلوم الاجتماعية الأخرى، وانعكست خسائرها على العلوم الطبيعية والطبية أيضا. فهلاّ نُجَلّى جوهر العلم الاجتماعى، وخاصة علم الاقتصاد، ليعود عِلما للإنسان بحقّ، كما أُريد له فى الأصل الواجب أن يكون..؟
أستاذ باحث فى اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية