تشارَكَ المصريون فى الأيام القليلة حالة نفسية قاتمة، أظنها ألقت على الجميع ظلا ثقيلا من الكآبة، تفاوتت درجاته لكنها بلا شك طالت الجميع بلا استثناء. الحادث المروّع الذى أودى بحياة أربعة من الشباب فى مقتبل العمر، وتداعياته ثم صورة الفنانة صاحبة الصوت الملون القوى الشجى والتى تشى ملامحها بمصرية خالصة وهى تغنى حليقة الرأس كالطير يرقص مذبوحا من الألم على المسرح فى أبوظبى.
لا أحد يتنبه إلى أن الإنسان قد يبدو «كالنشافة» التى تعودنا من سبق استخدامها للتخلص من الحبر الزائد وقت أن كان القلم يتم ملئه من المحبرة قبل عصر الأقلام الجافة.
جاء هدف معظم وسائل الإعلام متضامنا بقوة مع وسائل التواصل الاجتماعى التى أسهبت فى وصف كل ما يمكن أن يلون الأحداث ويستهدف مراكز الفضول لدى الأسوياء وضعاف النفوس فى آنٍ واحد.
دخل الجميع فى سباق محموم لاقتناص الملامح الشخصية لكل حدث؛ رغبة فى استثارة المشاعر ولفت الانظار إلى كل ما يجب أن يظل سرا لدى صاحبه، فاستباحوا هتك الأستار ومناقشة مواطن الألم دون اعتبار لما قد يصيب الضحايا من جروح جديدة.
ما يحدث عندنا بالفعل يحدث فى العالم بأسره، خاصة ما يتعلق بالمشاهير ما زال فى الأذهان الحادث الأشهر لديانا، وكيف تسبب المصورون المحترفون فى اقتناص مفردات النميمة فى مصرعها. وإلى الآن تُنشر صور المغنية الشابة الأكثر شهرة فى العالم الغربى برتينى سبيرز وهى تترنح تحت تأثير المخدرات حليقة الرأس، ولم ترفع وصاية والدها عنها إلا منذ أسابيع حينما بلغت من العمر سن الرشد.
ما الذى يختلف إذًا عند مجتمعنا؟
الواقع أن مجتمعنا يتأثر بصورة أكثر عمقًا يساهم فى ذلك بصورة فاعلة، الإعلام الملون الذى يعكف على التركيز على تفاصيل الوقائع الشخصية لأى حدث.
هل تجدى الرقابة إذًا على نشر الأخبار والحوادث فى تحجيم الأثر المدمر لتلك الوقائع؟
لا أعتقد بالطبع ولا أى من العقلاء أن مرض الرقابة أو خطر النشر هو الحل الذى يقى المجتمع تلك الصدمات.
تابعت اليوم على محطة BBC البريطانية أخبارا متتالية صادمة عن انتشار المتحور الجديد «أوميكرون». تتالت الأخبار بصورة علمية محايدة موثقة بأرقام وإحصائيات ورسوم بيانية. أخبار بلا شك تثير القلق لكنها تؤكد سلامة وأهمية الخبر الأمر الذى معه تقبله المستمع بارتياح ظاهر لا يختلف من إنسان لآخر.
بالطبع القياس هنا مع الفارق.
أردت اليوم أن أسأل الإعلام المصرى الذى تفرغ فى الأيام السابقة مع وسائل التواصل الاجتماعى لقضايا النجم الوسيم الذى انفصل عن زوجته اللبنانية والمغنية الأشهر التى ما زالت تحب طليقها بعد كل هذا الانهيار المعنوى، ثم الحكم الذى ينتظر وحيد عائلته الثرية الذى تسبب فى مصرع أربعة شباب فى مقتبل عمرهم.
أين ما ينفع الناس فيما تكتبون؟
ألا تتصورون أنكم بذلك تجرون نهرًا من الكآبة فى شرايين المصريين، وأن لما تكتبون تداعيات نفسية واجتماعية تطال الجميع بلا استثناء، بالطبع تلك أخبار يجب أن تعلن، ولكن فى حجمها الطبيعى وسياقها الواضح.
هل يصح أن يخرج طبيب المطربة النفسى على وسائل الإعلام ليشرح طبيعة حالتها النفسية ويسند أفعالها إلى مبررات نفسية وعقلية على الملأ. هل ذكرت يا زميل المهنة المحترم أنك يوما قد أقسمت على أن تصون أسرار مرضاك وأن تعمل على معاونتهم بكل جهدك؟
فعل ذلك بلا شك تحت ضغط وإلحاح الإعلام والإعلاميين.. حديثى الآن لأصحاب الضمائر اليقظة من الإعلاميين أنفسهم أرجو أن تأتى الضوابط منكم أنتم، ناقشوها بالصورة التى ترضيكم والطريقة التى تريحكم، قبل أن تفرض عليكم فتتعالى الأصوات تطالب بحرية التعبير، فيبدو الأمر مثيرا للشفقة، بعيدا عن المنطق خاليا من المعنى الحقيقى للقيم التى درجنا عليها.