قد تفكّرتُ فى الواقع الراهن للعلاقات الدولية على المستويين العالمى والإقليمى، من زاوية «علاقات القوة»، معّرفة باعتبار القوة الشاملة، بأبعادها الاقتصادية ــ الاجتماعية، والسياسية ــ العسكرية، والثقافية ــ الأيديولوجية، فوجدتُ عجبا.
وفكرتُ أن أصوغ مقولة «غرائبية الطابع» حول الموضوع فى قالب هجين، بالطريقة التى كان يسميها بعض معلمى اللغة العربية «الأسلوب العلميّ المتأدب»، لأَنْحُو بالصّوْغ بعيدا نسبيا عن طريقة الدرس الأكاديمى المحض لهذا الفرع من فروع علم «السياسية» أو «العلوم السياسية»، أيْ «العلاقات الدولية».
ثم أنّى جنحت، فى لحظة من لحظات «التداعى الذهنى الحر»، إلى تفضيل الطريقة الأدبية الخالصة، من قالب السرد، على النحو الذى اتبعه أحد أدباء ونقّاد الأدب العربى القدامى، هو أحمد ابن المقفّع، (من العصر العباسيّ الأول)، والذى دفع حياته ثمنا للرأى حول زمانه ومكانه، معبرا عن ذلك خلال كتابيْه «الأدب الكبير» و«الأدب الصغير» ومجموعة «كليلة ودمنة» وغيرها.. غير أنّى وجدت أن كِلا الأسلوب الأدبى لابن المقفع، و«الأسلوب العلمى المتأدب»، ربما يكونان غير وافيين بالغرض، ومن ثمّ وجدتُنى أرغب فى العوْد إلى ما اعتدت عليه، من محاولة المعالجة العلمية فى حقل «العلاقات الدولية». وقد نظرت فى ذلك، فارتأيت أنّى كتبت من هذا الباب كثيرا، فما أروت كتابتى الغليل، ولم تصل إلا إلى القليل.
وهكذا عدت مرة أخرى إلى تفضيل محاولة «الطريقة العلمية المتأدبة»، حيث يمتزج العلم بغير العلم، أى بالأدب، رغم صعوبة الفصل بين ما يكون علما وما يكون أدبا. هنا يتمازج الرأى مع الرؤية، وإن شئت فقل «الرؤيا» ــ ولِمَ لا؟ فما أقرب الواقع إلى شطحات الخيال أو إلى الأحلام فى ساعات اليقظة وفى المنام. وهل يشفى الغليل أكثر من التصوير غير الواقعى للواقع، ومن تحليق «الأكاديمى» فى الفضاء الرؤياوىّ و«الفانتازيا»، إن رغب..؟
•••
وهكذا أردت أن أُسمّى الأشياء بأسمائها المستعارة من المدركات الذاتية و«الشعورية» وربما اللا شعورية أيضا، دون مواربة أوْ وَجَل، وأن أخوض فى الموضوعات التى يدرسها العلم ولكن فى قالب تصويرى أو حِكائى، لا تثريب عليه من قيود تفرضها المعايير المصطلح عليها فى مناهج البحث.
وما دام ذلك كذلك، فلم أجد غضاضة فى أن أنظر شذرا إلى كيان سياسى معين من بين تلك الكيانات الصغيرة الطافية هذه الأيام على سطح الإقليم الذى نعيش فيه، ولكنها ذات أثر ظاهر فى اتجاهات عديدة، وأن أصِفَ ذلك الكيان الخاصّ بأنه «جرثومة». وهذه «الجرثومة» تجمع بين الصفات المختلفة للجراثيم، بين أنها «فيروس» أو كائن حىّ مجهرىّ، ولكنه ذو خطر بالغ على الجسم الذى يخترقه غصْبا ويعيش فيه؛ وبين أنها من قبيل «البكتيريا» التى تلتصق بالجلد أو الأمعاء أو غيرها وتُعْمِل فيها تشويها وتُحْدِث ألما. وهذا الكيان الجرثومى ليس ذلك فقط، ولكنه أيضا بمثابة «خلية سرطانية» أو ما يشبهها، تعيش على دواخل الكائن الحى وتنتقل بين أجزائه لتدمرها ببطء إن لم تواجهها، على الضدّ منها، وبرغمها، قوة قاهرة. ثم إن هذا الكيان الدخيل على الجسم، والذى هو ميكروبيّ الطابع بوجه عام، وفتّاك الأثر على نحو خاص، يتلفّت يمْنةً ويسرةً، بحثا عن موارد للقوة من خارجه، بوصفه كائنا طفيليا خالصا، يأخذ ولا يعطى، أو هو يأخذ ماء الحياة من حوله، ويعطى بالسلب الكثير مما يدرسه «علم الأمراض» و«الميكروبيولوجيا» وغيرها.
وفوق كون هذا الكيان من طبيعة جرثومية، فيروسية ــ بكتيرية معا، وطفيلية بطبيعة الحال، فإن من يصاب به قد تلحق به أعراض تشبه ما يصيب المريض بما يسمى «الإيدز» أو «نقص المناعة المكتسب»، فيذبل ثم يذوى سريعا أو بطيئا حسب الحال، أو يظل قائما على قيد الحياة وإن كان عليلا. وتحتاج الجرثومة، كى تعيش فى (أمان)!، إلى «وسط جرثومى» و«حاضنة مُجرثَمة، ملِّوِّثة وملوَّثة (بكسر حرف اللام وفتحه) مقزّزة.
فى هذا الوسط، تنتقل العدوى الجرثومية، لتصيب الأجزاء الضعيفة من الجسم، أطرافا محيطية كانت، وربما محورية أحيانا، ولكن تأثيرها يكون أقوى فى حالة «الهوامش الطرفية» شرقا قريبا، أو غربا قصيّا، لا فرق. ذاك برغم أن الشرق والغرب هذيّن، جمهورهما العريض نقىّ نقاء الثوب الأبيض، ومعافى من المرض، بحمد الله. ولكنّها (السمكة تفسد من رأسها) كما يقولون. ثم إن الجرثومة إذْ تنقل العدوى فإن السمات الجرثومية تنتقل، وإنْ فى صورة مختلفة، إلى كيانات غير مريضة أصلا، فتصيبها بالحُمّى والسهر، وإذا بها فى «الوسط الجرثومى» الواسع، تتحول إلى «نواقل للجراثم». وينشط «ناقل الجراثيم» ــ المنقولة إليه أصلا من خارج ــ فإذا به وكأنه «جرثوم صغير» يتحرك فى كل اتجاه، معتمدا على مصدر قوته الوحيد، المعروف، وهو المال، ذاهبا فى خُيلاء إلى حيث تبدو الحاجة إليه. ويظل «ناقل الجراثيم» متوهّما قدرته على النفاذ والنفوذ، دون امتلاك مقومات القوة الحقيقية فى الأجل الطويل، من حيث افتقاد «الكتلة الحيوية» كأحد مقاييس قوة الدولة بما فيها حجم السكان الأصلاء، وتركيب قوة العمل الوطنية، عدا عنصر واحد طارئ. وهو يسرف فى الخيال، وكأنه يملك القوة حقّا، مع محاولة اقتناء رموزها بين يديه، ولو فى مجال «غزو الفضاء» و«المفاعلات النووية»..! بيْد أنه لا يملك حتى سمة المكر والدهاء، مثل ذلك «الثعلب» الذى قال فيه «أحمد شوقى» أمير الشعراء: (برز الثعلب يوما....إلخ).
ولقد كان الأوْجب استخدام المال و«الشركات الكبيرة المتخصصة» والمنافذ الاستراتيجية المجلوبة على هذا الجانب من البحر أو ذاك، من أجل محاصرة «الجرثومة» حتى ترعوى فتردّ شطرا من حقوق أصحاب الحقوق. ولكن بدلا من ذلك، يُتْخِمون الجرثومة حتى تنتفخ أوداجها وتحاول الالتفاف بأذرعها المسمومة وبلسانها السامّ، على امتداد بعض السماوات المفتوحة والأرض المحتلة وغير المحتلة والمضايق، بغية إيهام القريب والبعيد بأنها إنما وجدت لتبقى!، برغم المصير المحتوم.
•••
تُقدَّم المساعدة إلى «الكيان» ليتمكن «المجرم ــ الجرثومة» من الإفلات من العقاب اللازم جزاءً وفاقا لجرائمه المتصلة طوال عشرات السنين، امتدادا للجريمة الأصلية التى نشأ بموجبها (جريمة العصر) والجرائم الفرعية التالية المتتالية، ربما مصداقا لقوْلة السيد المسيح فى صيغة بلاغية للاستفهام الاستنكارى الذائع (من معه يُعطَى ويُزاد، ومن ليس معه يؤخذُ منه؟). كما يتمكن بعض «نواقل الجراثيم» أيضا من الإفلات من (جرائم تبعية)، ويُعامَل وكأنه لم يأتِ بشيء يُلام عليه ويعاقَب من ثم على إثْرِه ولو رمزيا على الأقل.
ولو قد تمت معالجة الأمر كله بميزان العدل والعقل معا، لأصبحت الصدارة، بالقول والفعل، لمواجهة «عالَم الجراثيم»: من الجراثيم بذواتها، ونواقلها، و«المُهيْمِن العالمى على الجراثيم»، إن صح التعبير، وكذلك محاولة نقل «الجَرثَمَة» إلى حيث الاتجاه الغربى المغربى فى لعبة من ألعاب المكيدة السياسية دون مسوّغ حقيقى. أمّا إذا تحول «اللعب» إلى جِدّ من الجِدّ فهنا يمكن أن يقع المحظور؛ وذاك أمرُ خطير حقا. ويكون الرابح الوحيد، أو الأكبر، فى جميع الحالات، هى «الجرثومة الأصلية» بغير مُنازِع.
وماذا نقول عن كل ذلك أكثر من ذلك وفى فَمِنا ماء..؟.. وها هى إذن «الجرثومة ــ الكيان» تتحرك، ومعها ومن خلفها «ناقل الجراثيم» العنيد، وربما معهما «محاولة نقل الجرثمة»، وغير ذلك هنا وهنالك، قريبا أو بعيدا فى وقت قادم، خارج (التطبيع القديم) تحت رعاية، وبعناية، من «المُهَيْمِن العالمى على الجراثيم».
ويقوم هذا «المهيمن العالمى على الجراثيم» بنوع من «تقسيم العمل» و«توزيع الأدوار» بين كثير، فى قسمة وظيفية لا تُخطِؤها العين الفاحصة ولا العقل البصير. وذلك كله إلى حين. ويرون هذا الحين بعيدا ونراه قريبا بحكم سُنَن «الضرورة التاريخية ــ الإنسانية».
وإن غدا لِناظِرِه قريب..