فى تاريخ كل الشعوب والحضارات لحظات تاريخية فارقة لا يكون ما قبلها مثل ما بعدها أبدا. هذه اللحظات ترتبط عادة بأحداث قومية ضخمة، كانتصار أو هزيمة فى حرب، ثورة شعبية أو انتفاضات فئوية أو طبقية، قرارات زعماء وملوك ورؤساء، أو أطروحات أكاديمية أو اكتشافات علمية تؤدى فى النهاية إلى تغييرات اجتماعية وسياسية وثقافية كبرى، لا يشترط أن تكون النتائج المباشرة بالإيجاب، بل قد تكون نتائج شديدة السلبية، لكن تكون المحصلة على الأجلين المتوسط والطويل إيجابية ــ على نسبية الكلمة!
فى العصر العباسى الأول ــ مثلا ــ كان قرار الخليفة بإنشاء بيت الحكمة ليس مجرد قرار فوقى بإنشاء مكتبة ومساحة عامة للعلوم والفنون، ولكن أدى هذا القرار إلى تغيير وجه التاريخ الحديث للعلوم الطبيعية والإنسانية، أدى إلى تزعم الخلافة الإسلامية لعالم العلوم التطبيقية والاجتماعية بالإضافة إلى اللغات والترجمة والفلسفة، بحيث أصبحت حضارة العالم نتاجا إسلاميا خالصا لعقود طويلة!
وحينما كتب أستاذ اللاهوت فى إحدى الجامعات الأوروبية مارتن لوثر كينج مجموعة من الأوراق الأكاديمية التى تتحدى السلطة المطلقة للكنيسة الكاثوليكية فى ١٥١٧، فإن أحدا لم يتخيل أبدا أن مجموعة الأوراق هذه لن تسقط فقط سلطة الكنيسة المطلقة ولكنها ستشكل الأساس الفلسفى الأهم لواحدة من أعظم الحركات الدينية الإصلاحية فى أوروبا والعالم الغربى وهى حركة الإصلاح البروتستانتى والتى أعادت تشكيل الوجه الحضارى الحديث لأوروبا!
وبعد حروب دينية طويلة، جاء قرار الدول الأوروبية بعد هذه الكتابات بأكثر من مائة وثلاثين عاما بصلح ويستفاليا عام ١٦٤٨ وتأسيس الإرهاصات الأولى لفكرة الدولة القومية، بنتائج أبعد بكثير مما بدا للوهلة الأولى وأنه نتاج للصلح. فلم يكن الأمر مجرد إنهاء للحروب الدينية التى أنهكت أوروبا، ولكنه كان بداية لثورة سياسية وصناعية وثقافية مازالت تشكل البنية الأساسية للعالم الغربى الحديث الذى نعرفه اليوم!
فى ثلاثينيات القرن العشرين، وحينما قبل تشامبرلين رئيس وزراء بريطانيا آنذاك بخرق هتلر لمعاهدة فرساى التى أنهت الحرب العالمية الأولى محتلا تشيكوسلوفاكيا ظنا من الأول أن قبول الأمر الواقع قد يساعد فى التوصل إلى اتفاق مع الثانى كى لا يتمادى فى توسعاته ــ وهى الاتفاقية التى تم توقيعها بالفعل فى ميونخ عام ١٩٣٨ــ فإن ذلك القرار والذى احتفت به أوروبا ظنا منها أنه جنبها الحرب ظهرت نتائجه الكارثية بعدها بفترة قصيرة حيث كان ذلك دافعا لهتلر لمزيد من التقدم فى العمق الأوروبى وهو ما أدى إلى اندلاع ثانى أعنف وأكبر حرب عالمية شهدها التاريخ وهو ما انتهى بعدها بنحو ٧ سنوات مؤذنا ببداية عصر جديد من التعاون الدولى ومساهما فى ترسيخ مفاهيم سياسية جديدة مازالت تشكل النظام العالمى الذى نعيش فيه الآن!
فى تلك الفترة تقريبا، وبعد عقود تقديس الإمبراطور اليابانى، فإن الشعب اليابانى قد استيقظ على كابوس التدمير الشامل لليابان فى العام ١٩٤٥ والذى انتهى باستسلام الإمبراطور وظهوره ضئيلا هزيلا أمام الجيش الأمريكى، فقد كانت تلك اللحظة القاسية إذنا بعهد جديد أدرك فيه اليابانيون أن الإمبراطور هو مجرد «لا شىء مقدس» منخرطين فى بناء نهضة سياسية وصناعية مستمرة حتى اليوم!
***
فى كل هذه اللحظات المؤسسة، ورغم أن بعضها ارتبط بنتائج مباشرة شديدة السلبية، ورغم أن بعضها الآخر بدا للوهلة الأولى ضئيلا بلا تأثير أو حتى ضربا من الجنون، فإنها فى النهاية قد أحدثت تغييرات أكبر وأشمل بكثير مما اعتقد حتى صانعوها، وكان التغيير الأهم المرتبط بهذه اللحظات هو تغيير وعى وإدراك الشعوب وتشكيل ثقافة جديدة كانت بمثابة البنية التحتية الكامنة للنهضات العلمية والصناعية والسياسية التى تلتها!
فى شهر يناير من كل عام، يتجدد الجدل وتتنوع ردود الفعل فى العالم العربى حول الثورات والانتفاضات التى انفجرت قبل تسع سنوات بين قطاع لا يراها إلا باعتبارها مؤامرات خَطّط لها الأعداء، أو قطاع آخر يرى أنها كانت فرصة حقيقية للتغيير وبين هذا وذاك تتراوح ردود فعل ما بين حزينة/ مكتئبة أو مكبوتة أو ما بين منقلبة على مواقفها القديمة حامدين الله على نعمة الاستقرار التى نعيش فيها بعد هزيمة المخططات الشريرة للتدمير!
فى يناير يتجدد الأمل لدى البعض، ويتكاثر اليأس لدى البعض الآخر، وتتعاظم غطرسة القوة والإنكار عند مجموعات ثالثة. يتحدث البعض بحنين وتوق إلى الماضى القريب، بينما يتحدث البعض الآخر بغضب وتشفى، يرى البعض أن الثورات فشلت أو هُزمت، ويصر البعض الآخر على أنها لم تهزم بعد وأن النصر حتما قريب، بينما يدعو فريق آخر إلى تجاوز الأمر برمته وهكذا دواليك جدالات مربكة لا تنتهى!
الحقيقة أن انتفاضات التغيير فى العالم العربى حققت نتائج متباينة كانت سلبية فى معظمها سياسيا واقتصاديا وأمنيا، ومن حق كل فريق أن يراها بمنظوره، لكن إذا ما حاولت أن تبعد عن الإغراق فى تفاصيل الأحداث والمشاعر، فستدرك أن التطور الأهم فى العالم العربى منذ ٢٠١١ وحتى الآن هو «الوعى»!
***
فى معظم الأحداث المشار إليها فى مقدمة المقال، فإن التطور والتغيير الأهم كان تطور وعى الشعوب، وفى كل لحظة من لحظات التأسيس الكبرى فإنه وبغض النظر عن النتائج السياسية والاقتصادية المباشرة، فإن تغير الوعى والإدراك والمعرفة كانت مقدمة لتطورات سياسية وصناعية أكبر.
إن التحديث السياسى فى معظم الخبرات التاريخية كان عادة يسبقه تطورات ثقافية واجتماعية، وكانت هذه الثورات عادة مرتبطة بخمس مساحات عامة أعاد الناس تعريفها ورسم حدودها، المساحة الأولى هى مساحة الجسد، والمساحة الثانية هى مساحة النوع (الجندر)، والمساحة الثالثة هى مساحة المجتمع وعلاقاته المختلفة، أما المساحة الرابعة فهى مساحة الدين، والمساحة الأخيرة هى مساحة السلطان أو الملك أو الحاكم.
فى معظم هذه اللحظات التاريخية، بدأت الشعوب فى التساؤل عن ماهية جسدها وضرورة تحريره إما التحرير بمعنى التحرر فى الاستجابة لرغبات الجسد أو بمعنى التحرر من القيود الموضوعة على الجسد ماديا أو معنويا!
بدأت الشعوب والمجتمعات التى عاشت لحظات التغيير والتحديث الكبرى هذه فى التساؤل أيضا عن حدود العلاقات بين الجنسين، عن دور المرأة فى الشأن العام، عن معانى الذكورة والأنوثة والتفرقة بين النوع (كتصنيف جسدى)، وبين النوع كصناعة مجتمعية أو سلطوية دينية أو سياسية، يبدأ الناس أيضا فى مراجعة علاقاتهم المجتمعية فى أماكن جيرتهم وأماكن عملهم، تبدأ أسئلة عن حقوق العمال وعن حقوق التنظيم والتعبير، عن العلاقة بين المجتمع والسلطة...إلخ.
ثم تبدأ مجموعة رابعة من الأسئلة المرتبطة بالدين، التفرقة بين النصوص وبين الأفعال، بين المقدس والمدنس، بين ما قاله الله، وما يدعى البشر المتحدثين باسم الله أنه قاله، يبدأ الحديث عن التفرقة بين الرأى الشخصى والرأى الدينى، عن معنى إلزامية النصوص الدينية وهل هو إلزام معنوى أم إلزام مادى يترتب عليه عقوبات، عن حدود دور رجل الدين ومحدودية معارفه وسطحية أو فوقية أو انتهازية موقفه!
وأخيرا تأتى أسئلة السياسة، أسئلة الحكم والسلطة، أسئلة توزيع الموارد والقيم ومن يحصل على ماذا ومن يُستَبعَد ولماذا فى محاولة لصياغة عقد جديد بين الحاكم والمحكوم.
ثورة الوعى هى الأساس لتقدم الشعوب، لأنها تُحوّل الناس من مستهلكين للمعرفة العامة إلى مشاركين فى صناعتها، صحيح أن ذلك الطريق ليس سهلا، لأنه يرتبط بإزالة أوهام تاريخية تعامل معها الناس لعقود وربما قرون على أنها مسلمات، على أنها مقدسات، على أنها حدود لا يجوز الاقتراب منها، هذه العملية ترتبط بآلام نفسية عميقة، ليس سهلا أن تغير معرفتك وقناعتك وبالتالى هويتك، لكن حينما تفعل، فأنت تخطو نحو المزيد من الحقيقة، نحو التمييز بين المقدس والمدنس، نحو فهم أعمق لماهيات الأشياء من حولك!
فهل حدث اشتباك للشعوب العربية مع تلك المساحات بعد ثورات وانتفاضات ٢٠١١ بغض النظر عن النتائج السياسية والاقتصادية للأخيرة؟ هذا ما سأحاول مناقشته فى مقالة قادمة.