بات المصريون فى حال واستيقظوا على حال آخر.
بين حالين متناقضين تأكدت من جديد خطورة الصور وقوة أثرها فى الحرب مع الإرهاب.
هذا النوع من الحروب تحسم الصور وقائعه وتتحكم فى سيناريوهاته.
الرأى العام هو موضوع الحرب.. مدى تماسكه وحدود ثقته فى نفسه.
صور الدمار والتخريب والحرق والتذبيح الجماعى على شرائط مصورة تستهدف مباشرة خفض مستويات الثقة العامة فى المستقبل، أى مستقبل.
كأن الإرهاب قوة لا سبيل لردها ووحشيته ماضية كسكين فوق كل الرقاب التى تعترض طريقه.
هذا ما كان مقصودا من بث شريط بتقنيات فنية عالية لتذبيح واحد وعشرين مواطنا مصريا فى سرت الليبية.
لكل لقطة رسالة خضعت لتخطيط مسبق وأعمال مونتاج متقن، فالرهائن مستسلمون لمصيرهم التعس بلا مقاومة باستثناء شىء من الفزع على بعض الوجوه أقل مما هو طبيعى وإنسانى فى لحظة التذبيح.
طابور الموت بلباس الإعدام البرتقالى وهو يمضى بهدوء على شاطئ البحر لمصيره مقصود تماما، كأنه من طبائع الأشياء، ومظهر الإرهابيين بزيهم الأسود وأقنعتهم الملثمة فى هيئة تنم عن قوة بدنية مقصود هو الآخر، واختلاط الدم بمياه البحر المتوسط رسالة لا تخطئ إلى جانبه الآخر فى أوروبا.
فى العناية الفائقة بأدق التفاصيل إدراك لخطورة الصور ورسائلها غير أنها أخطأت أهدافها.
تحت وطأة الصدمة تبدت صلابة المجتمع المصرى ومتانة نسيجه الوطنى، كان الحزن جماعيا وطلب الثأر سؤال على كل لسان.
فى مثل هذه الأزمات فإن التماسك العام مسألة حياة أو موت وإبداء أى ضعف يفضى إلى نتائج كارثية.
أى وضع كان يمكن أن نكون عليه إذا لم نبادر فى فجر اليوم التالى، بعد ساعات من بث شريط التذبيح الجماعى، بالرد والانتقام من معسكرات "داعش" فى قلعتها بـ"درنة" الليبية.
كان الأداء العسكرى سريعا وحاسما.
صور النسور المصريين وهم يقلعون بطائراتهم من ملاجئها لضرب معسكرات ومناطق تمركز "داعش" نسخت أية أثار سلبية خلفتها صور الليلة السابقة ورفعت من منسوب الثقة العامة.
المعلومات الأولية تشير إلى أن عملية قصف معسكرات "داعش" أكبر مما هو معلن حتى الآن، فلم تكن على ما كان يُعتقد "رمزية" تولتها أعداد محدودة من الطائرات أوقعت بعض الخسائر، أو أنها كانت معنوية لإثبات القدرة على الرد وتهدئة الخواطر، وهذا بذاته مطلوب وملح وضرورى.
أن تكون العملية كبيرة ومتتابعة فهذه شهادة بالقوة الجاهزة والتخطيط المسبق ترفع من قدر مصر فى محيطها العربى.
أريد أن أقول بوضوح إن هيبة القوة من ضرورات لعب أى دور إقليمى، غير أن ذلك لا يعنى التورط العسكرى.
ما نحتاجه الآن بناء استراتيجية أكثر تماسكا فى الاقتراب من الأزمة الليبية تمازج بين القوة والدبلوماسية.
القوة بلا أفق سياسى مشروع تورط عسكرى والدبلوماسية بلا قوة مشروع فشل مسبق.
ليس هناك أحد فى العالم مستعد أن يستمع لمحاضراتك الدبلوماسية فى الأمن القومى وما يتهددك من مخاطر ما لم يعلن البلد الذى تتحدث باسمه عن قوته، أن يكون حاضرا ومستعدا لكل الاحتمالات والتكاليف وأن يثبت ذلك فى الميدان، وهو ما حدث على نحو جلى فى «غارة النسور».
فى معارك النيران المشتعلة فإنها القوة وفى معارك الغرف المغلقة فإنها الدبلوماسية.
المعارك كلها ليست سهلة وهى بطبيعتها تستدعى سياسة النفس الطويل، فهناك تقديرات متباينة داخل الأطراف الدولية والإقليمية النافذة عند الاقتراب من الملف الليبى، هناك أطراف كإيطاليا تعلن بوضوح عن استعدادها للتدخل العسكرى لكن تحت مظلة أممية، وفرنسا مستعدة للخيار ذاته بدرجة أقل من الحماس، والولايات المتحدة تتخبط استراتيجيا فى إدارة الحرب على الإرهاب، لا تعرف مواضع خطواتها القادمة بينما لا أحد فى المنطقة مستعد أن يصدق أنها لا تعرف، ودول عربية مهمة معنية مباشرة بالملف الليبى كالجزائر تتبنى وجهة نظر أخرى غير التى تدعو إليها القاهرة فى الحوار بين الأطراف المتنازعة بالسلاح، والأمم المتحدة أقرب إلى وجهة النظر الجزائرية دون أن يكون هناك أى أفق فى أى مدى منظور لتسوية سياسية محتملة.
أمام التدخل العسكرى الصعب والحلول الدبلوماسية شبه المستحيلة فإن الخيارات ضيقة وبقدر إحكام الرؤية تتجلى فرص حسم الصراع.
لا تدخل عسكرى بغير مظلة عربية ودولية وإلا فإنه دخول إلى المستنقع.
هذا مبدأ مؤكد بأى معنى سياسى غير أن الشيطان يكمن فى التفاصيل.
إن أى تدخل دولى محتمل بلا تصور لعملية سياسية جديدة متوافق عليها يفضى إلى ذات الجرائم التى ارتكبتها قوات "الناتو" عند إطاحة العقيد «معمر القذافى»، تولى «الناتو» التخطيط والتنفيذ بالكامل غير أنه ترك ليبيا للميليشيات كأنه عمل مقصود لإنهاء وجودها كدولة.
هذه اللعبة أفضت إلى تمكين الجماعات التكفيرية كـ «داعش» من التمركز فوق أراضيها وبناء معسكرات تدريب يتخرج منها شهريا وفق تقارير أوروبية نحو (٣٠٠) جهادى بينهم أوروبيون.
تجنب خطايا الماضى من ضرورات أية استراتيجية جديدة تواجه الإرهاب فى ليبيا.
بالنسبة للدبلوماسية المصرية فإن دعم «الجيش الوطنى الليبى» نقطة الارتكاز فى أى تدخل محتمل، فلا دولة بلا جيش ولا جيش يتأسس على الميليشيات أو يتسامح مع أكثر الجماعات تطرفا ووحشية.
الرهان على الجيش الليبى يعنى دعمه وتسليحه وتدريبه وتأهيله لخوض معارك إعادة بناء الدولة من جديد وفق عملية سياسية ديمقراطية تستبعد كل من يدعم الإرهاب أو يتردد فى حربه.
المعنى ألا يفضى التدخل إلى احتلال جديد وتلاعب آخر بالمصائر الليبية، وأن تكون هناك سلطة أكثر شرعية تخول وحدها اتخاذ القرارات باسم الشعب الليبى.
هذا السيناريو المصرى لا يلقى حتى الآن الدعم الكافى دوليا وإقليميا، فالمصالح المتناقضة تعرقل إلى حد كبير أية تفاهمات، غير أن استعراض القوة المصرية يدعو بذاته إلى احترام ما يصدر عن دبلوماسيتها، فالعالم يستمع باهتمام لمن يحترم قضاياه ويعلن عن قوته.
بين القوة والدبلوماسية بدأت تختلف مواقع وحسابات أساسية فى الداخل الليبى نفسه.
فيما ارتفعت ثقة «الجيش الوطنى الليبى» فى مستقبله ومدى الدعم الذى يمكن أن يحصل عليه ارتبكت ميليشيات «فجر ليبيا»، التى تقودها جماعة الإخوان المسلمين.
أدانت "مذبحة العمال المصريين" بشىء من رفع العتب لكنها اعتبرت «الغارة المصرية» عدوانا كأنها سلطة شرعية تبسط سيادتها على الأراضى الليبية بينما تنتهك أية شرعية وأية سيادة.
وأرادت مسبقا أن تضع قدميها فى منطقة آمنة نسبيا، لا تقطع صلتها بالجماعات التكفيرية حتى لا تتصادم ولا تتحمل فى الوقت نفسه مسئولية مذابحها حتى لا تدفع ثمنها.
فى الوقت نفسه فإن الجماعة الأم تبنت خطابا مرتبكا يندد بالتدخل المصرى ويحمل السلطة مسئولية المذبحة التى تعرض لها العمال المصريون لأنها انحازت لطرف ضد آخر فى الصراع الليبى.
وهو خطاب يبرر جريمة التذبيح الجماعى ويعمق فى الوقت نفسه كراهية الجماعة فى مجتمعها.
المعنى فى حرب الصور أن القوة غلبت الخوف، والتقدم بثقة أضفى احتراما على البلد، والأطراف الإقليمية والدولية بدأت تترقب التداعيات العسكرية والدبلوماسية المحتملة، فالغارة موحية بما بعدها وأثارها تتجاوز فكرة الثأر للضحايا إلى مواجهة الإرهاب فى قلاعه.