كثير من القضايا المطروحة على مجتمعاتنا المعاصرة توصف بأنها «قضايا خاسرة«. فمساندة شعب ضعيف أعزل فى مواجهة احتلال استيطانى مدجج بأسلحة نووية وكيميائية وبيولوجية، ومدعوم من أكبر قوة استعمارية فى العالم يعده البعض قضية خاسرة. ونقد ممارسات الهيمنة والاحتلال المقنَّع التى تفرضها قوى الاستعمار الجديد على الدول الأضعف والأفقر؛ بهدف سلب ثرواتها، يراه البعض قضية خاسرة. وفضح سيطرة قوى بعينها على اقتصاد العالم وسياساته، يُدركه البعض على أنه قضية خاسرة. والدفاع عن قيم الحرية والعدل فى مجتمعات تهيمن عليها أنظمة مستبدة فاسدة، تذل شعوبها، وتسترضى قوى الاستعمار القديم، يعده البعض قضية خاسرة. والدفاع عن قيم المساواة والعدل فى عالم يعيش هوة هائلة بين من يملكون كل شيء، ومن لا يملكون أى شيء، ويتلاعب فيه الأقوياء بالقانون، يراه البعض قضية خاسرة.
يرى هؤلاء أن القضايا السابقة ومثيلاتها خاسرة؛ لأنه لا أمل فى الفوز فيها. فمساندتك لشعوب محتلة، مثل الشعب الفلسطينى، لن تمكِّنه من التحرر. ودفاعك عن الحرية لن يهدم الاستبداد. ونقد ممارسات الاستعمار الجديد لن يضعف تحالف قوى الاستعمار مع الأنظمة المستبدة فى استنزاف ثروات الشعوب الضعيفة، وتدمير مقدراتها، وهلم جرا.
يتساءل هؤلاء، لماذا يضيِّع المرء حياته دفاعًا عن قضايا خاسرة، ربما لا يرى ثمرة واحدة من ثمار دعمه لها طوال حياته؟ لماذا لا ينحاز إلى الفائزين لعله يحظى من الكعكة بنصيب؟ لماذا يتبنى قضية شعب أعزل محاصر لن يمنحه أى شيء، ويخاطر بإثارة عداوة استعمار شرير، لا يتورع عن فعل أى شيء لكسر مقاوميه؟ لماذا لا يمدح الاستبداد ويبجل الفاسدين، فيحوز الرضا والرزق الوفير؟ لماذا لا يسترضى وكلاء الاستعمار الجديد فى عالمنا العربى، الذين يوزعون المكافآت والمنح على أتباعهم المخلصين؟ لماذا لا يتحالف المثقف مع الأقوياء، ويختار بدلا من ذلك أن يصطف مع الخاسرين؟
• • •
بالطبع فإن للتساؤلات السابقة وجاهتها إذا نظرنا إليها من منظور نفعى. فحين يتجرد الإنسان من إنسانيته، ويتصرف مثل إنسان الغاب، سيتحلل من قيد الأخلاق والمبادئ الإنسانية، ليسلك مثل ثعلب ماكر: يفترس الأضعف، ويهادن الأقوى. لكن البشر تعلَّموا عبر آلاف السنين كيف يَسْمُون بأنفسهم ليرتقوا بإنسانيتهم، ويتغلبوا على غرائز حيوانيتهم. وتمكن النبلاء من البشر من إعلاء الفضيلة على الغريزة، والانحياز إلى المبدأ على حساب المصلحة. فاختاروا دومًا الاصطفاف وراء ما هو حق وعدل وخير وجمال، مهما كانت المغريات التى يغويهم بها الاصطفاف وراء الباطل والظلم والشر.
قد يبدو الدفاع عن «القضايا الإنسانية الخاسرة» خيارًا أخلاقيًا، يقوم به قلة من البشر الذين يؤثرون التمسك بالفضائل على تحقيق المصالح. لكن هذا جزء من الصورة فحسب. فالدفاع عن «القضايا الخاسرة» سلوك عقلانى رشيد، بمعيار المصلحة ذاته الذى يؤمن به أغلب البشر. فالمكاسب الآنية التى يحققها المرء بواسطة انحيازه إلى قضايا غير أخلاقية لا تكاد تُقارَن بالخسائر التى يتكبدها على المدى البعيد. فالشخص الذى يناصر نظامًا فاسدًا، قد يجنى بعض المكاسب جراء ذلك، لكنه فى الآن نفسه يعرض نفسه لمخاطر شتى بسبب احتمالية أن يصبح فاسدًا، كما أنه يعرض مستقبل أبنائه وأحفاده لمخاطر جمة نتيجة عيشهم فى ظل مثل هذا النظام الفاسد. علاوة على أنه قد يقع نفسه ضحية الاستبداد والفساد إذا قرر النظام التخلص منه، أو معاداته. وفى المقابل، فإن مقاومة مثل هذا النظام يجعل الشخص حريصًا على أن يمثل قيم النزاهة والحرية والعدل، بما يجعله عصيًا على الإفساد، فيضمن لنفسه ولأبنائه وأحفاده فرص حياة أفضل.
من ناحية أخرى، تتعاظم الخسائر التى يتكبدها المرء إن لم يدافع عن «القضايا الخاسرة» إذا كان مثقفًا. فالمثقف يكتسب هويته بوصفه مثقفًا من موقفه المبدئى تجاه انحرافات السلطة، سواء فى السياق المحلى أو الدولى. فعلى مدار عقود طويلة، تحدد مفهوم المثقف استنادًا إلى وقوفه فى مواجهة انحرافات السلطة، بوصفه ضميرًا للمجتمع، ومعبرًا عن عقله الجمعى، ووعاءً لقيمه وأخلاقه. المثقف وفقًا لهذا المعنى يستمد هويته من انحيازه الحر إلى قضايا الضعفاء والمهمشين والمظلومين، سواء أكانوا أفرادًا أم شعوبًا. بصياغة أخرى، فإن المثقف لا يكون مثقفًا إلا فى اللحظة التى يتبنى فيها «القضايا الخاسرة»، ويدافع عنها بوصفها قضيته نفسه، لأن الدفاع عنها هو ما يمنحه كينونته.
• • •
تنقلنا النقطة الأخيرة إلى سؤال بديهى: هل تظل هذه القضايا «خاسرة» إذا قرر مثقفو بلد ما الانحياز إليها والدفاع عنها؟ الإجابة هى، بالطبع، لا. فمثقفو المجتمع هم عقله وضميره وروحه معًا. وإذا صلح عقل المجتمع، وصحا ضميره، وصفت روحه، يصبح قادرًا على الدفاع عن قضاياه الإنسانية العادلة، ويمنحها قوة تمكنها من الصمود. وتتحول إلى قضايا رابحة، ليس من زاوية النتائج المترتبة عليها فحسب، بل من زاوية قدرتها على تحقيق اصطفاف مجتمعى راشد حولها، بما يخلق توحدًا فى روح المجتمع وعقله وضميره.
إن اصطفاف المجتمع وراء نخبته المثقفة دفاعًا عن الحرية والعدل والمساواة، ومقاومة الظلم والاستبداد والاحتلال يمكنه أن يغير على نحو جذرى من موازين القوى فى عالمنا الراهن. فالتحدى الأكبر لا يكمن فى قوى القهر والاحتلال والاستبداد والفساد، بل فى ضعف قوى المجتمع عن تعريتها ومقاومتها. وإذا كانت أولى خطوات مقاومة الظلم المسيطر على العالم هو الوعى به، وفضحه، فإن المسئولية الأكبر تقع على عاتق المثقفين قبل غيرهم.
إن الدفاع عما يظنه البعض «قضايا خاسرة» ليس جنوحًا رومانسيًا حالمًا، بل هو اختيار عقلانى واعٍ. لا سيما على المدى البعيد، حين تتعاظم الآثار الإيجابية لحفاظ المرء والمجتمع على أخلاقه ومبادئه وقيمه، وتتعاظم الآثار السلبية للتخلى عنها.