نشر المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية مقالا للكاتبة مارى ماهر، تناولت فيه أهداف إسرائيل الجيوسياسية من شنها ضربات جوية على مواقع إيرانية فى الأراضى السورية، إضافة إلى التغيير الذى طرأ على رد الفعل الإيرانى إزاء تلك الضربات بإعلانه للمرة الأولى خسائره دون إخفاء أو نفى... نعرض من المقال ما يلى. رغم تنفيذ إسرائيل نحو 145 غارة جوية خلال السنوات الأخيرة ضد مناطق تمركز الميليشيات الإيرانية وعناصر حزب الله فى سوريا ومستودعات الذخائر والأسلحة ضمن استراتيجية «المعركة بين الحروب»، إلا أن وتيرتها تكثفت منذ بداية العام الحالى 2023 حيث شنت إسرائيل 10 غارات على الأراضى السورية فى محافظات دمشق وحلب وحمص، بينهم 4 غارات فى غضون خمسة أيام فقط، وهو رقم يؤشر لكثافة الهجمات مقارنة بنحو ثلاث هجمات خلال الشهر فى المتوسط سجلتها السنوات الماضية. وقد أخذ التصعيد الإسرائيلى الإيرانى منحى آخر بحلول 8 أبريل الحالى بانضمام جبهة الجولان السورية المحتلة لجبهتى لبنان وغزة فى تنفيذ ضربات صاروخية تستهدف الشمال الإسرائيلى ومناطق الجولان المحتلة بشكل ينذر باتجاه إيران ربط الساحات بمواجهة إسرائيل.
حملت سلسلة الضربات الجوية الإسرائيلية على أهداف ذات صلة بإيران فى الأراضى السورية دوافع جيوسياسية ترتبط بالتطورات المتسارعة التى تشهدها الساحة الإقليمية ورسائل أرادت إيصالها إلى الجانب الإيرانى، نذكر منها:
تأكيد القبضة العسكرية الإسرائيلية: أثارت الخلافات المرتبطة بمسألة الإصلاح القضائى بين المستوى السياسى والمستوى العسكرى وحالة اللايقين بشأن مصير وزير الدفاع الإسرائيلى يوآف جالانت، انتقادات واسعة بشأن تداعياتها السلبية على إرباك الاستراتيجية الأمنية والعسكرية الإسرائيلية الإقليمية لمواجهة التهديدات الإيرانية واهتزاز قوة الردع الإسرائيلية، ولذلك تسعى تل أبيب لتأكيد كفاءة عمل الأجهزة الأمنية والعسكرية بعيدا عن الخلافات السياسية وصرف الانتباه عن الاضطرابات الداخلية وإظهار تصميمها على حماية أمنها فى أعقاب الأزمة الداخلية.
الرد على عملية مجيدو: تعتقد إسرائيل بوقوف حزب الله ومن خلفه إيران وراء عملية مجيدو التى وقعت خلال مارس الماضى. ورغم أن إسرائيل لم تحمل حزب الله وزعيمه حسن نصر الله مسئولية العملية إلا أن الواقعة تمثل إشارة إلى إسرائيل مفادها قدرة حزب الله على تنفيذ هجمات استراتيجية موجعة داخل العمق الإسرائيلى ردا على الضربات ضد عناصره ومستشاريه فى سوريا، وهى رسالة التقطتها إسرائيل وردت بمهاجمة أهداف لحزب الله وفيلق القدس عدة مرات فى الأراضى السورية.
مواجهة إعادة التموضع الإيرانى فى سوريا: عززت إيران حضورها داخل الساحة السورية مستغلة متغيرين جديدين؛ الأول الانشغال الروسى بالحرب الأوكرانية وسحب بعض قواتها ومعداتها العسكرية من سوريا لإعادة نشرها على الجبهة الأوكرانية. أما المتغير الثانى فيتعلق بالزلزال الذى ضرب مناطق الشمال الغربى السورى والجنوب التركى، حيث يُعتقد أن إيران استغلت الكارثة كغطاء لمراكمة مصادر التهديدات سواء كانت صواريخ أو طائرات مسيرة أو مستشارين عسكريين، فبحسب ضابط سابق فى مديرية استخبارات الجيش الإسرائيلى عبرت نحو 1000 قافلة الحدود العراقية السورية عبر معبر القائم الخاضع للسيطرة الإيرانية خلال الشهرين الماضيين ومن المؤكد أن بعضها حملت الأسلحة والذخائر. وتخشى إسرائيل من محولات إيران تشكيل معادلة ردع عسكرى تسمح لها بفرض قواعد اشتباك جديدة تصبح بموجبها سوريا جبهة مفتوحة جديدة لاستهداف إسرائيل.
تثبيت حضورها ضمن الترتيبات الإقليمية الجديدة: تشعر إسرائيل بالانزعاج من الحراك الدبلوماسى الإيجابى ومحاولة الوصول إلى تسويات وترتيبات سياسية تخفف الضغوط الإقليمية على إيران وتكسر حدة عزلتها، مقابل إفشال المساعى الإسرائيلية لتشكيل جبهة عسكرية لمواجهة إيران وتوسيع اتفاقيات إبراهام، لذلك تسعى تل أبيب إلى تأكيد أن حضورها فى المعادلة السورية لن يتأثر بأى ترتيبات إقليمية وإرسال رسائل للأطراف الإقليمية والولايات المتحدة بأنه مثلما كان لها دور فى التصدى العسكرى لإيران فإنها ستكون جزءا من عملية الاستقرار التى لا يجب أن تتجاهل مصالحها الأمنية وأن أهدافها داخل العمق السورى لن تتأثر بالتقارب السعودى الإيرانى أو مساعى المصالحة العربية السورية، لاسيمَّا أن الأخيرة ستطرح مسألة ما ستكون عليه علاقة سوريا بالأسرة العربية وما ستكون عليه العلاقة الإيرانية السورية وما سيكون عليه مصير الموجودة فى سوريا، لكن حتى الآن لا توجد مؤشرات بشأن التزامات إيرانية حول تقليص حضورها فى سوريا.
• • •
أظهرت إيران تحولا لافتا فى الاستجابة للضربات الإسرائيلية الأخيرة، فللمرة الأولى تسارع بالإعلان عن مقتل مستشارين عسكريين بينهم القيادى فى الحرس الثورى ميلاد حيدرى بينما اعتادت سابقا إخفاء خسائرها أو نفيها. وجادل محللون بأن الإعلان غير الاعتيادى يشى بإعطاء طهران مبررا للرد، لكن لا يتوقع انخراط إيران فى مواجهة مفتوحة مع إسرائيل، وإنما سيقتصر الأمر على استجابة محسوبة ومحدودة وربما تتأخر نسبيا، فحتى الآن لم تأتِ إيران برد موجع على اغتيال قائد فيلق القدس بالحرس الثورى قاسم سليمانى، ولا مقتل العالم النووى محسن فخرى زادة، ولا مقتل القيادى العسكرى فى حزب الله عماد مغنية، ولا الضربات الإسرائيلية على منشآت نووية إيرانية فى أصفهان.
ويبدو أن خيارات الاستجابة الإيرانية لاستهداف قادتها مستودعاتها تنحصر بين مسارات تقليدية تتعلق بالتصعيد العسكرى والأمنى أو السيبرانى، ويشمل ذلك تنفيذ اختراقات للمجال الجوى للإسرائيلى فى الجولان المحتل بواسطة طائرات مسيرة على غرار عملية يوم 2 أبريل، أو محاولة تنفيذ عمليات نوعية داخل العمق الإسرائيلى سواء عبر الدرونز أو العناصر الميليشياوية على نمط عملية مجيدو، أو استهداف سفن مملوكة لإسرائيل فى مياه الخليج العربى وبحر العرب وهى سياسة دأبت طهران على استعمالها؛ ففى يوليو 2021 استهدفت طائرة مسيرة «شاهد 136» ناقلة إسرائيلية فى خليج عمان وقتلت اثنين من طاقهما بينهم القبطان ردا على مقتل ضابطين فى الحرس الثورى فى غارة إسرائيلية على مطار الضبعة السورى، وخلال فبراير الماضى أصابت مسيرة إيرانية ناقلة نفط مملوكة لملياردير إسرائيلى ببحر العرب فى أعقاب غارة بطائرة مسيرة على ورشة عسكرية وسط إيران.
وقد أشارت توقعات إلى أن معلومات استخباراتية أمريكية وإسرائيلية بشأن استهداف محتمل لسفن تجارية مدنية إسرائيلية فى الخليج العربى وبحر العرب بواسطة مسيرات إيرانية كان أحد أسباب إرسال الولايات المتحدة الغواصة النووية «يو إس إس فلوريدا» لدعم الأسطول الأمريكى الخامس ومقره البحرين. كذلك تشكل المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط والقواعد العسكرية الأمريكية فى مناطق شرق الفرات أهدافا مرشحة للضربات الصاروخية الإيرانية بما فى ذلك القاعدة الأمريكية فى التنف أو حقل العُمر النفطى؛ وقد تعرضت قاعدة التحالف الدولى فى حقل كونيكو شرق سوريا للاستهداف بـ 3 صواريخ يوم 11 أبريل الحالى.
ومع ذلك يرجح عدم ذهاب طهران بعيدا بالتصعيد لارتباط سلوكياتها بأهداف السياسة الخارجية؛ فتطوير جولة الصراع الحالية ربما يضر أو يُبطئ مساعى إيران لإرساء ترتيبات إقليمية جديدة تتعلق بإتمام المصالحة السعودية الإيرانية المرهونة بمراعاة الأخيرة المصالح الأمنية الخليجية، وبتسريع التقارب العربى السورى المرهون أيضا بتهدئة الجبهة الجنوبية السورية وتقليص أنشطة الميليشيات الموالية لإيران، علاوة على تجنب استعداء الغرب لإبقاء خيار استئناف مفاوضات العودة للاتفاق النووى قائما. وإنما يقتصر هدف إيران على استغلال التحولات الإقليمية وتراجع الحضور الأمريكى فى الشرق الأوسط والأزمة السياسية الداخلية فى إسرائيل لإعادة تثبيت معادلة ردع عسكرى وتأكيدها باعتبارها أمرا واقعا لا يُمكن تجاهله.
الخلاصة، لن تصمت إسرائيل أمام محاولات القيادة الإيرانية تغيير قواعد الاشتباك القائمة أو إعادة تموضع إيران إقليميا وستواصل نهجها الهجومى المحسوب والذى يشمل استهداف بعض مقارها ومستودعاتها فى سوريا أو العراق أو شن هجمات سيبرانية على منشآتها النووية أو اغتيال بعض علمائها النوويين أو مستشاريها العسكريين، وما تريده إسرائيل من هذا النهج هو تأكيد قدرتها على الردع وحماية مجالها الحيوى وحماية بيئتها الاستراتيجية، وهو ما ستستقبله طهران بتنفيذ عمليات أمنية وعسكرية نوعية لا ترقى إلى الدخول فى مواجهة عسكرية مباشرة، لا يرغب الطرفان أو رعاتهما الدوليون بالانزلاق نحوها أو تحمل تبعاتها. وفى كل الأحوال ينبغى التأكيد على أن مئات الضربات الجوية والصاروخية الإسرائيلية على مدى السنوات الماضية لم تمنع إيران من مواصلة برنامج أسلحتها غير التقليدية، ولم تدمر سوى جزء صغير من مخزون ميليشياتها فى سوريا.
النص الأصلي