توطين الذكاء الاصطناعي في إطار النظام الوطني للابتكار..  مفاتيح للنقاش - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
الأحد 8 سبتمبر 2024 3:01 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

توطين الذكاء الاصطناعي في إطار النظام الوطني للابتكار..  مفاتيح للنقاش

نشر فى : الثلاثاء 18 يونيو 2024 - 5:50 م | آخر تحديث : الثلاثاء 18 يونيو 2024 - 5:50 م

 يتركز اهتمامنا الأساسى فى مجال دراسات التكنولوجيا، هذه الأيام، من زاوية «الاقتصاد السياسى» على كل حال، فى موضوع «الابتكار».

وحين نقول «الابتكار» فنحن نقصد، إلى حدّ كبير، التساوق مع التغير الجذرى فى وجهة النظر المنهجية خلال نصف القرن الأخير على الأقل. فقد كان الأمر فى هذا المجال يقتصر على ما قدمته «الأمم المتحدة» فى الخمسينيات ثم الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، بإبراز دور «العلم والتكنولوجيا» فى التنمية، وهو أمر عقدت من أجله حلقات ومؤتمرات عدة، سرعان ما لحق بها الوطن العربى آنذاك، ما تجلّى فيما ُسُمّى «كاستعرب». وكان مركز الاهتمام آنذاك - مع الانتقال إلى السبعينيات والثمانينيات - ما يسمّى «القدرة العلمية - التكنولوجية» بمقوماتها البشرية (الخبرات المجسدة) والعينية (الآلات والمعدات) و«الناعمة» أو الجوانب الفكرية للملكية الصناعية والمعرفية (خاصة براءات الاختراع وتراخيص نقل التكنولوجيا). وظهر ذلك جليًا فى فكر منظم عن تكنولوجيات بازغة ثم ناضجة و(متكهلة) تباعًا وسراعًا خاصة التكنولوجيا النووية والفضائية والحيوية وحتى «السيراميكية». ثم تطور علم وعمل فى مجال «الشرائح الدقيقة» (ميكرو شيبس) - فى الثمانينيات والتسعينيات - تطبع عليها المعلومات فى «دوائر متكاملة» Integrated Circuits. وصارت هذه نواة للأجهزة الإلكترونية الدقيقة التى هى عصب التطور الرقمى المتسارع فى كل المجالات والقطاعات الطليعية.

مع إطلالة التسعينيات أخذ يبرز عالم جديد يقال له «عالم الابتكار»، وحل الحديث عن القدرة الابتكارية محل الحديث المجرد عن القدرة العلمية والتكنولوجية. ومع الابتكار كان من الطبيعى أن يولد حديث متجدد متوسع عن زرع الابتكار فى البيئة الوطنية-المجتمعية، عبر بناء «منظومة وطنية للابتكارات» أو «نظام وطنى للابتكار» باختصار National System of Innovation.

ولما أفل الحديث القديم عن «العلم والتكنولوجيا» وعن القدرة العلمية والتكنولوجية، أخذ يطل مع الألفية الجديدة - بعد عام 2000- فكر جديد لعالم جديد يقوم على ما أسموه «الثورة الصناعية الرابعة» بل ربما «الخامسة» على أعمدة من «الأتمتة» الكاملة و«الرقمنة» و«البيانات الضخمة أو الكبيرة».

ومن التطلع لاستخدام البيانات كأُسّ للمعلومات، وأساس للمعرفة، تضخم التطلع إلى تطوير نظم كاملة للذكاء الاصطناعى، الذى يسعى إلى محاكاة الذكاء البشرى، وربما التفوق عليه أيضًا. وهنا بدأت المخاوف وتعاظم القلق من جراء الخشية من تطور الذكاء غير البشرى، بل إفلاته من رقابة البشر رويدًا رويدًا، بعيدًا عن الأخلاقيات الملزمة Ethics وبحيث يحل «الأوتوماتون» محل الإنسان، ويصير الذكاء «غير البشرى» بديلًا لعالم «الأنسنة» المأمول.

• • •

من هنا جاء اهتمام قلِق بضرورة التحكم فى مسيرة الذكاء غير المنضبط، لكى يكون منضبطا بحق. ولكى يكون منضبطًا فهذا يعنى، فى المثل الأعلى، جعل «الذكائية» خاضعة للوطنية، إن صح التعبير. وبذلك يتم السعى إلى جعل الذكاء الاصطناعى وطنيًا، بالمعنى العلمى، باعتباره الذراع العملية للنظام الوطنى للابتكار. وهذا حديث يطول ثم يطول. لكن هنا يبرز مصطلح «توطين الذكاء الاصطناعى»، فكيف يكون، وما معناه فى الأصل؟

الحق عندنا أن كلمة «توطين» فى السياق المحدد لما أشرنا إليه توًّا، لها معنيان:

•  معنى زرع النشاط الخاص بالذكاء الاصطناعى فى داخل الوطن، أى ما يقابل كلمة Localization، فهو هنا متعلق «بالحيز» أو «المكان»، بدلالته الجغرافية.

• معنى آخر للتوطين، ينصرف إلى ضرورة أخذ الخصائص الوطنية والقومية فى عين الاعتبار الأول، حين إدراج نشاط (أو أنشطة) الذكاء الاصطناعى، فى البيئة المحلية، البيئة المصرية-العربية بالتحديد. أى أنه هنا قد يقابل كلمة Nationalization التى استخدمت للمقابل العربى «تأميم» فى أوقات سابقة.

وقد ارتأينا أن نعبر عن هذين المعنيين بكلمة واحدة فى المقابل باللغة الإنجليزية للتوطين، وهى Indiginalisation.

أما عبارة «النظام الوطنى للابتكار» فهى مكونة من ثلاث كلمات:

1-    النظام System أى النسق المتكامل المكون من عناصر متعددة بينها انسجام Homogeneity، وبالتالى بتحقق قدر معقول من الترابط Linkage (التفاعل المتبادل interaction) فيما بينها داخل بوتقة واحدة.

2- أما كلمة «الوطنى» فإن لها مدلولًا ينصرف إلى جانبين:

• الجانب الأول أن «النظام» المشار إليه، «متموضع» Localized فى حيز جغرافى-اقتصادى-سياسى معين، هو فى هذه الحالة فى مصر العربية.

• الجانب الثانى أنه «وطنى» بمعنى أنه مطبوع بطابع السمات الوطنية بامتياز، فهو هنا نظام متعلق بالوطن، اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا أيضًا.

3- أما الكلمة الثالثة «الابتكار»: فإنها منذ (جوزيف شومبيتر) الذى دبّج كتابه عن «الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية» فى ثلاثينيات القرن المنصرم، فتنصرف بصورة عامة إلى: الابتكار المتعلق بالمنتجات، أى ابتداع سلعة أو خدمة جديدة product-innovation ثم الابتكار المتعلق بالعمليات الإنتاجية process-innovation أى طريقة إنتاج المنتج ذاته.

 ويمكن أن نضيف بعدا "ثالثًا" للفظة الابتكار" –غير المنتجات والعمليات– هو الابتكار المتصل بهما معًا فى وحدة منسجمة بالمعنى "الجدلى" dialectical القائم على كل من الترابط العضوى linkage، والتفاعل المتبادل interaction. أى أن الابتكار هنا تعبير لفظى آخر عن "التأصيل" وهو ما نعبر عنه بالمقابل indiginalisation كما سبق ذكره.

 • • •

 لمحة عن المتطلبات والمحاذير المتعلقة ببناء النظام الابتكارى "الوطني"

    •  متطلبات تموضع "النظام" فى البيئة الوطنية – العربية المصرية. والمتطلبات هنا تنصرف إلى ما يعبر عنه عادة بالشروط الأولية prerequisites أى ما يجب أخذه فى الاعتبار، قبل، وعند، بناء أركان النظام ثم غرسه فى الواقع المحلى-الوطنى والقومى الأعمّ.

هذه الشروط الأولية منها ما هو بشرى، وما هو فيزيقى-عينى، وما هو تنظيمى أو مؤسسى. ولكل منهما معانٍ قد نعرج عليها لاحقًا.

• أما المحاذير، فهى المخاطر أو التهديدات المحتملة التى يمكن أن تنجم - فى ظروف معينة - من وراء بناء أركان النظام، وتفعيله عضويًا وتبادليًا.

أهم هذه المحاذير ما يتصل بضرورة «توجيه» حركة النظام نحو تحقيق الهدف المجتمعى المتعلق برفع مستوى الإشباع المادى والروحى للحاجات الأساسية للأغلبية الاجتماعية.

ويتصل هذا البعد اتصالًا وثيقًا بكل من «أخلاقيات» الذكاء الاصطناعى، من جهة أولى، وذلك من حيث الوسائل. أما من حيث الغايات، فى الجهة الثانية، فإن الأمر يتعلق بما يمكن أن نطلق عليه «الأَنسنة» humanization كترجمة للأخلاقيات المذكورة. ويندمج البُعدان: الأخلاقى، الخاص بالوسائل، و«الأنسنى» الخاص بالغايات، فى دالة مركبة من العنصرين، بحيث يتوجه النظام، معنى ومبنى، إلى الرفاه الاجتماعى للأغلبية الاجتماعية الغالبة أى ما قد يقال له Vast Majority.

وعلى الضد من ذلك، ينبغى ألا يكون النظام الابتكارى موجهًا نحو خدمة آلة الحرب والتسلح والعنف، أو خدمة الأقلية الثرية المعمِّقة لعدم المساواة الاجتماعية Social unevenness .

بذلك نكون قد ألممنا بأطراف المقولة المتضمنة فى الموضوع ذى الثلاث شُعب:

(النظام الوطنى للابتكار، وتوطين الذكاء الاصطناعي: متطلباته ومحاذيره).

فماذا بعد؟

يمكن القول إن النظام الابتكارى الوطنى وذراعه العملى المفترض– منظومة الذكاء الاصطناعى «الموطّنة»، يقومان على قدمين: قدم مغروسة فى الأرض، وقدم أخرى متطلعة إلى السماء. فأما القدم المغروسة فى الأرض فتتصل بما أشرنا إليه آنفًا عن ضرورة التوجه نحو إشباع «الحاجات الأساسية» للناس، للأغلبية الاجتماعية الواسعة (نحو 80% من المجتمع). وقد قيل إنها خمسة احتياجات تقابلها قطاعات معينة فى هيكل الناتج المحلى الإجمالى:

1- المأكل والمشرب (ويتصل ذلك بقطاعات الأغذية والمشروبات) و2- الملبس ( ويتصل بصناعة المنسوجات والملابس الجاهزة) 3- المسكن الملائم (ويتصل بقطاع المبانى والإنشاءات). 4- التعليم. 5- الصحة والرعاية الأولية والدواء والصيدلانيات والتطبيب. وكلها مشروطة بتلبية الحاجة الكلية القاعدية للشعور بالأمان.

وأما القدم المتطلعة إلى السماء فهى تلك التى تقوم على «التعميق الصناعى والتكنولوجى»، انطلاقًا من تصنيع الآلات والمعدات ووسائل النقل.

ويتم ذلك عبر شراكات جديدة متجددة، متوسعة ومتنوعة، فى عالمنا المتوتر القلق، بدءًا من المحيط العربى الخالص، فالإفريقى العام، ثم الإفريقى-الآسيوى - اللاتينى. ويليها انخراط نشط خلاق فى دورة التطور الابتكارى العالمى، على أساس من الأخلاق و«الأَنسنة» الحقة.

محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات