أبدأ بالاعتراف بأن كاتب هذه السطور لم يقم بإبداع شخصى فى طرح عناصر البرنامج التالى، بل اكتفى بجمع اقتراحات طرحتها مختلف الأطراف المكونة للحركة الثورية فى مصر. وفيما يلى أهم البنود التى تشكل هذا البرنامج المحتمل:
1- لابد من إعادة النظر فى صفقات بيع موجودات الدولة. وهناك دراسات دقيقة ــ من مستوى «لاوديت» ــ تتيح تحديد القيمة الحقيقية لهذه الأصول. وبما أن المشترين لم يدفعوا هذا الثمن، فلابد من تحويل الملكية المعنية إلى كيان جديد (شركة) يحدد رأسماله بقيمة الموجودات الصحيحة، وأن يكون المشترى صاحب حصة من رأس المال هذا تعادل ما دفعه، بينما يكون الباقى ملكا للدولة، وأن يكون للدولة حق عرض حصتها للبيع بثمنها الحقيقى. ولابد أن ينطبق هذا المبدأ على جميع المشترين المصريين والعرب والأجانب.
2- لابد من تحديد حد أدنى للأجور بحكم القانون، ومستواه المقترح هو 1200 جنيه شهرياً (ما يعادل حوالى 155 يورو بسعر الصرف الجارى أو 400 يورو حسب القيمة الشرائية)، علما بأن هذا المستوى قد حُدد فى مارس 2012. ويُلاحظ أن هذا الحد الأدنى يقل عما هو عليه فى بلدان أخرى متماثلة فى مستوى دخل الفرد. ويجب أن يكون الحد الأدنى المقرر قابلاً للتعديل بالموازاة مع تطور الأسعار (نظام السلم المتحرك)، وأن تشارك النقابات جهاز الدولة المسئول عن تنفيذه فى جميع قطاعات النشاط الخاص والحكومى. وقد أثبتت دراسات دقيقة أن الموقع الاحتكارى للأنشطة التى تسيطر على الاقتصاد، والتى تستفيد من حرية تحديد الأسعار، قد أدى إلى تصاعد الأرباح الاحتكارية. وبالتالى، فإن رفع الأجور لن يؤثر فى مستوى الربحية الطبيعية العادلة. كما أن رفع الدعم المشار إليه آنفاً، من جانب، وزيادة موارد الموازنة المتوقعة من خلال الإصلاح الضرائبى المقترح فيما بعد، من جانب آخر، من شأنه أن يعوض تكلفة رفع مرتبات موظفى الدولة.
وهناك اقتراح يلازم ويكمِّل تحديد الحد الأدنى للأجور، ألا وهو تحديد حد أقصى للأجور والمرتبات بحيث لا يزيد الحد الأقصى على 15 ضعف الحد الأدنى.
3- لابد من فتح مفاوضات ثلاثية تجمع النقابات وأصحاب الأعمال والدولة من أجل التوصل إلى اتفاق على مشروع قانون يخص حقوق العمال (شروط العمل والفصل، التأمينات الاجتماعية، المعاشات، الرعاية الصحية... وما إلى ذلك). ويبدأ الإصلاح باعتراف الدولة بحقوق النقابات المستقلة وبحق الإضراب.
وهناك اقتراح مكمِّل يتعلق بمنح «معونة بقاء على قيد الحياة» (وهى ليست بمستوى التعويض الذى يُمنح عادةً للعاطلين عن العمل) للعائلات التى تعانى من الفقر المدقع. وتُحدد شروط المنح وقيمتها ووسائل تمويلها من خلال مفاوضات بين النقابات والدولة.
4- لابد من إلغاء أشكال الدعم الممنوح للاحتكارات الخاصة. وهنا أيضاً تثبت الدراسات المتوفرة فى هذا المجال عدم صلاحية هذا الدعم ما دامت المؤسسات المعنية تعمل فى ظل حرية تحديد الأسعار.
5- لابد من القيام بإصلاح النظام الضرائبى على أساس إدخال مبدأ التصاعدية؛ وتحديد معدل الضريبة على أرباح المؤسسات الإنتاجية (شركات ومؤسسات فردية تستخدم أكثر من 20 عاملاً). والمقترح هنا نسبة 25 بالمائة، هذا إلى جانب إلغاء الإعفاءات التى منحتها الدولة لصالح الاحتكارات العربية والأجنبية. وجدير بالذكر أن عبء الضريبة المفروضة على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هو حالياً أثقل (نعم أثقل) فى كثير من الأحيان. ولذلك، فلابد من تخفيفه.
وفيما يتعلق بمعدل الضريبة على الشريحة الأعلى من دخل الأفراد ــ والمقترح بهذا الصدد هو نسبة 35 بالمائة ــ فالملاحظ أنه أخف ما هو عليه فى المقارنات الدولية.
6- أثبتت الدراسة أن مجموعة الاقتراحات المطروحة هنا تضمن إنجاز التوازن فى الموازنة العامة. فسوف يحقق تنفيذها التخلص من العجز الجارى (فى السنتين 2009 و2012)، بل وتكفل تحقيق فائض ملحوظ يمكن تخصيصه لرفع مستوى الإنفاق على التعليم والصحة ودعم الإسكان الشعبى، وتجدر الإشارة إلى أن إعادة بناء قطاع حكومى فى مجال توفير الخدمات لا تستلزم اتخاذ إجراءات تعوق استمرار عمل الأنشطة الخاصة فى هذه المجالات.
7- لابد من العودة إلى وضع الائتمان تحت رقابة البنك المركزى، فلابد من التخلى عن المغالاة فى تقديم القروض السهلة للاحتكارات، وإعادة توجيه القروض المصرفية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة النشطة. وقد أثبتت دراسات دقيقة فى هذا المجال أن هناك وسائل لتشجيع إنتاج القطاعات الحرفية والصناعة والنقل والخدمات إذا توافرت لها القروض اللازمة. ويتيح هذا للكثيرين، وخاصة فى صفوف الشباب المتعلم والعاطل حالياً، القدرة على خلق وظائف عمل لهم ولغيرهم.
8- ينظر البرنامج أيضاً فى مطالب صغار الفلاحين، وإن كان ذلك دون الدخول فى التفاصيل. وجدير بالذكر أن هذا النقص يرجع لتفتت حركة صغار الفلاحين، حيث مازالت حركة الاحتجاج إلى الآن حضرية أكثر منها ريفية. وبهذا الصدد هناك اقتراحاً أولياً مفاده إصدار قانون يمنع (مؤقتاً) نزع ملكية صغار الفلاحين الذين يواجهون صعوبات فى دفع إيجار الأراضى. بالإضافة إلى اقتراح مكمل يسعى إلى العودة لقانون تحديد الإيجارات، وهو قانون أُلغى فى عهد السادات ولايزال ملغياً إلى الآن.
كذلك هناك تكتلات من مهندسين زراعيين تقدميين طرحوا مشروعات مدروسة لإحياء إنتاج صغار الفلاحين بوسائل مختلفة، منها إصلاح نظام الرى (الرى بالتنقيط)، وتشجيع الزراعة الكثيفة لمنتجات ذات قيمة عالية (خضراوات وفواكه)، وتأطير أسعار المدخلات (أسمدة وكيماويات) بالرقابة الحكومية (على أن تشترك الجمعيات التعاونية فى متابعة التنفيذ)، وتدعيم موقع الفلاحين فى مجال تسويق إنتاجهم من خلال إقامة جمعيات تعاونية حرة وصحيحة... وما إلى ذلك. ولا جدال فى أن نجاح مثل هذا البرنامج يتطلب تدعيم العلاقات العضوية بين منظمات الفلاحين من جانب وتكتلات المهندسين الزراعيين من جانب آخر، كما أنه يفترض إصدار قانون يعترف بشرعية تكوين منظمات الفلاحين.
9- من شأن تنفيذ الاقتراحات المذكورة أن يدفع فى اتجاه تنمية اقتصادية صحيحة. ويزعم أعداء هذا البرنامج من أنصار الليبرالية المتطرفة أنه برنامج يغلق الأبواب لمشاركة الأموال الأجنبية فى التنمية. وهذا القول فاسد وينكره واقع التطورات الحديثة فى الاقتصاد العالمى. فقد أثبتت التجربة أن الدول التى رحبت بالمبادئ الليبرالية دون تحفظ، وتنازلت عن أى برنامج تنموى وطنى لصالح الاعتماد على فعل «حرية الأسواق»، لم تنجح فى جذب الأموال الخارجية. وفى هذه الأحوال، اكتفى رأس المال الأجنبى بغزو الموارد الطبيعية المحلية ولاغير. وفى المقابل نجد أن الدول التى طورت مشروعاً تنموياً وطنياً مستقلاً (مثل الصين) هى التى جذبت الأموال الخارجية التى وجدت فى هذا الإطار فرصاً حقيقية للعمل والكسب، فقبلت الشروط التى تفرضها الدولة الوطنية والتى تضع حدوداً لأرباحها، ومن ثم اكتفى رأس المال الأجنبى بمعدل ربح طبيعى ومعقول.
10- دلت ممارسات الحكومات المتعاقبة بعد الثورة 25 يناير وحتى الآن- وبالأخص حكومة الإخوان المسلمين-على تمسكها بالمبادئ الليبرالية المتطرفة، بل أبدت جميعها نيتها فى الإسراع بتنفيذ برنامج «البنك الدولي». ولهذا دلالته المهمة ففى الحقيقة كل هذه الحكومات هى تنويعات مختلفة لنفس نظام مبارك. فدولة مابعد الثورة ظلت هى نفس الدولة الكمبرادورية التى تعبر عن مصالح رأسمالية المحاسيب. والوعى الشعبى يدرك ذلك كما تشهد عليه الشعارات المكتوبة على جدران القاهرة والقائلة: «الثورة لم تغيِّر النظام ولكنها غيَّرت الشعب».
11- ومن المهم الاشارة إلى أن البرنامج المذكور عاليه يخص فقط الجانب الاقتصادى والاجتماعى للتحدى. بيد أن الحركة الثورية حاملة لمشروع وطنى ديمقراطى له أبعاده السياسية التى تطالب بأقامة «دولة المواطنة»، وأحترام الحقوق الديمقراطية الفردية والجماعية، وتكريس السيادة الوطنية فى مواجهة مشروع الأخوان المتمثل فى «دولة الجماعة الإسلامية». وأن كان هذا المشروع لم يتبلور بعد فى رؤية متماسكة. وهو ما يفسر رفض الجماهير الثائرة بوعيها التاريخى، المرة تلو الأخرى للنخب الحاكمة المعبرة عن مصالح متشابكة لرجال الأعمال، والأمريكان، ودول الخليج. ولن تهدأ ثورة الجماهير إلا اذا جاء فى الحكم من يمثلها ويطرح مشروعها هى، التى عبرت عن خطوطه العريضة، ببساطة ووعى عميق فى الشعار الذى أطلقته « عيش، حرية، عدالة أجتماعية.
خبير اقتصادى ورئيس المنتدى العالمى للبدائل بداكار