نعرف أن الذى صك هذا المصطلح هو المفكر السياسى الفرنسى مونتسكيو، صاحب نظرية الفصل بين السلطات، ونعرف أنه مصطلح غير علمى، وتشوبه وصمة العنصرية، ولذا قد كان عرضة لانتقادات جادة وحادة للوهلة الأولى وحتى يومنا هذا، فعلى حد قول فولتير أشهر مفكرى التنوير، من معاصرى مونتسكيو، فقد كان الاستبداد هو القاعدة فى جميع النظم السياسية فى العصور القديمة والوسيطة وبدايات العصور الحديثة، مع استثناءات قليلة زمانا ومكانا، لكن وعلى الرغم من هذه الانتقادات المستحقة، فلا يزال لمصطلح الاستبداد الشرقى حجيته فى تفسير ظاهرة، أو لنقل مرض الفصام بين ادعاءات ومظاهر الحداثة السياسية فى معظم بلداننا العربية والإسلامية، وبين استمرار ممارسات وتقاليد أشد عصور السلطوية المستبدة همجية وظلامية، وهو الفصام الذى لا تفسير مقبولا غيره لفاجعة اختفاء الصحفى السعودى جمال خاشقجى داخل قنصلية بلاده فى مدينة إسطنبول التركية، بكل ملابسات الحادثة، وأسرارها، ما تكشف منها، وما سيتكشف، وما سيبقى طى الكتمان والتواطؤ، وبكل مضاعفاتها المحلية والإقليمية والدولية.
كنا قبل قضية خاشقجى أمام محاولة أو مقاولة للإصلاح والتحديث فى المملكة السعودية سياسيا واجتماعيا وثقافيا، وبغض النظر عن تحفظات كثيرة على الدوافع الحقيقية وراء قيادة ولى العهد لهذه المحاولة، وبغض النظر أيضا عن الارتباكات والتخبطات والتراجعات أحيانا، فقد كان الترحيب أوسع، والأمل أقوى عند من كانوا يشفقون من صعوبة المهمة، ومن جسامة الأثمان المدفوعة لتمكين ولى العهد السعودى فى الداخل وفى اليمن وفى فلسطين وللولايات المتحدة الأمريكية، ثم ها هى ذى فاجعة الصحفى المختفى (وهو معارض سلمى) تؤكد أن حالة الفصام الحادة بين مظهر الحداثة والإصلاح السياسيين، وبين رسوخ أفكار وتقاليد الاستبداد الشرقى لا تزال تضرب المجتمعات العربية والإسلامية، ونظمها السياسية بعنف.
يزيد من مشاعر الحسرة، ودواعى الإحباط أن أكثر من مئتى عام من محاولات التحديث فى هذه المنطقة لم تكن كافية للاعتراف بوجود هذا المرض، والعمل على علاجه، أى منذ بدأ محمد على باشا فى مصر، والسلطان محمود الثانى فى الدولة العثمانية محاولتهما للنهضة والإصلاح.
فإذا اعتبرنا أن حقبة الباشا والسلطان كانت تأسيسية، بمعنى أنه كان من المحتمل تعرض التجربة فيها لنكسات رجعية وظلامية فما الذى حدث بعد ذلك؟
فى الدولة العثمانية قاومت السلطوية كل محاولات الإصلاح، حتى جاء عصر الإرهاب الحميدى (نسبة إلى السلطان عبدالحميد الثانى) ضد كل من حمل فكرة إصلاحية.
وفى مصر سرعان ما انتكس تحديث الخديوى إسماعيل، لأن الرجل الذى كان يريد تحويل مصر إلى قطعة من أوروبا لم يكفر قط بالاستبداد الشرقى، فاحتفظ بسلاح فنجان القهوة المسموم للتخلص من معارضيه، أو من يخشى كشفهم عن أخطائه، كما احتفظ بسلاح المنح والمنع، فكان الإنعام بالإقطاعيات وسيلته لحشد الاتباع، والحرمان والتجريد من الثروة، والنفى إلى طوكر بجنوب السودان أسلحته لمعاقبة الاستياء وقمع المعارضة، وكل ذلك بلا قانون أو عرف سوى إرادته وحده، بل إنه أوعز لرئيس نظاره رياض باشا أن يجابه أعضاء البرلمان الذى أنشأه لموازنة النفوذ الغربى قائلا لهم: حذار أن تصدقوا أنكم حقا نواب، وإياكم أن تتوهموا أن مصر مثل فرنسا، وأنكم فى الجمعية الوطنية الفرنسية.
لم يتغير الحال كثيرا أو قليلا بعد إسماعيل، وكان خليفته توفيق أكثر صراحة منه عندما قال لأحمد عرابى: «ما أنتم إلا عبيد إحساناتنا» ولم يحد من سلطوية توفيق، وابنه عباس حلمى الثانى سوى الاحتلال البريطانى، بكل أسف.
أما الملك فؤاد، فلم يطق يوما فكرة الدستور والانتخابات الحرة ومشاركة الشعب فى السلطة من خلال حزب الوفد، فقاد بنفسه ثلاثة انقلابات دستورية، لكن ما يثير الدهشة أكثر من استبداد الملك فؤاد ــ وهو الذى تعلم فى أوروبا، وعمل فيها ملحقا عسكريا للدولة العثمانية فى شبابه ــ لم يترك الكرباج من يده، ليعاقب كسيد إقطاعى شرقى كل من استحق العقاب فى نظره، بمن فى ذلك الملكة نازلى، ومن قبلها زوجته الأولى الأميرة شويكار.
حقا لم ينفذ الملك فاروق أى انقلاب دستورى صريح، ولم يستخدم الكرباج، ولكنه هو أيضا لم يكفر قط بالاستبداد الشرقى، فظل ينقلب على البرلمان المنتخب وعلى حكومات الوفد حتى آخر أيامه على العرش، وبدلا من الكرباج فقد كان أول ملك فى العصر الحديث يشكل بنفسه عصابة لاغتيال خصومه السياسيين تحت مسمى الحرس الحديدى.
ولم يكن الحال أفضل فى ظل جمهورية يوليو، فقد كان جمال عبدالناصر رافع شعار ارفع رأسك يا أخى هو من تحولت السجون فى عهده إلى سلخانات للمعارضين السياسيين، الذين مات أو قتل كثيرون منهم تحت التعذيب.
ورغم أن أنور السادات أوقف التعذيب، وأوحى بقبول التعددية السياسية، إبهارا للغرب على طريقة الخديوى إسماعيل، فإنه سرعان ماعاد مستبدا شرقيا أصيلا بعد مظاهرات يناير 1977، فعصف بالأحزاب، وقنن الاعتقالات، وغير الدستور ليخلد فى السلطة، ودعونا من تفاصيل ما تلا ذلك، إذ يبقى الحال على ما هو عليه.
تقتضى الموضوعية الإقرار بأن الفصام بين مظهر الحداثة ومبادرات الإصلاح وبين الاستبداد الشرقى ليس مرضا مصريا، أو عثمانيا على سبيل الحصر، فقد كان شاه إيران الراحل محمد رضا بهلوى مثلا أعلى، وحالة نموذجية لهذا الفصام، فهذا الرجل الذى قاد ما سمى بثورة الشاه والشعب البيضاء للقضاء على الإقطاع، وألغى القيود القانونية على النساء، هو نفس الرجل الذى سجن وعذب وقتل المعارضين، وأقصى الأحزاب، وحول المؤسسات إلى فروع للقصر الشهانى، علما بأنه لم يتبن سياسة الإصلاح الزراعى إلا بأمر من الرئيس الأمريكى الراحل جون كيندى، ويقال إن كيندى أصدر إلى الشاه هذا الأمر، دون أن يسمح له بالجلوس فى المكتب البيضاوى فى البيت الأبيض.
ولم يكن نورى السعيد والأمير عبدالإله، ثم عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف وصدام حسين فى العراق سوى نسخ أخرى من هذا المستبد الشرقى، مع الاحتفاظ لصدام بقصب السبق اللعين فى هذا المضمار، ومثلهم كل حكام البعث السورى، وأئمة ورؤساء اليمن، وجنرالات السودان والجزائر، وملك المغرب الراحل، بل إن رئيسا مدنيا مثقفا مثل الحبيب بورقيبة فى تونس لم ينج من الإصابة بهذا المرض، والأدهى والأفدح أن رجلا فى ثقافة ومكانة ذوالفقار على بوتو رئيس وزراء باكستان الراحل لم ينج هو الآخر من هذه الأعراض، وظل يتصرف حيال معارضيه المحليين كسيد إقطاعى من العصور الوسطى، إذ على الرغم من الشبهات التى أحاطت بالحكم عليه بالإعدام، فإن القضاء لم يستطع تبرئته من التآمر لاغتيال منافسه الرئيسى أحمد رضا كسورى.
وسط هذه الظلمات تقدم لنا الهند وماليزيا ــ بل وحتى كوريا الجنوبية منذ عدة عقودــ براهين حية على أن الاستبداد الشرقى ليس حتمية تاريخية، وعلى أن السبب ليس فى طبيعة الشعوب كما يقال عادة، ولكن السبب فى مكان آخر، يتعين على الجميع البحث عنه، وتشخيصه بالدقة الواجبة، لعلاجه بالجدية اللازمة، من أجل سلامة الأوطان والشعوب، بل والحكام، وهذا هو الدرس الأكبر من فاجعة جمال خاشقجى، رحمه الله إن كان من أصحاب القبور.