استضافت البرازيل فى الأسبوع الماضى المؤتمر الدولى الخامس عشر لمكافحة الفساد والذى حضره أكثر من 1500 مشارك من حوالى 130 دولة من دول العالم. واستمرت جلسات المؤتمر ــ الذى افتتحته رئيسة البرازيل ــ لمدة أربعة أيام تمتد من التاسعة صباحا للثامنة مساء. ويعتبر هذا المؤتمر والذى يعقد دوريا كل عامين أهم تجمع عالمى لتناول التجارب الناجحة فى مكافحة الفساد وأيضا للحديث الصريح عن جوانب الفساد المستشرية فى مختلف القطاعات، لاسيما القطاع المالى وقطاع البترول والغاز والثروات الطبيعية.
وليس من قبيل المبالغة وصف هذا المؤتمر بأنه كان صرخة مدوية ضد الفساد جاءت من قلب أمريكا الجنوبية. ومصدر الصرخة له دلالة لأن معظم دول أمريكا الجنوبية والوسطى عانت لسنوات طويلة من أنظمة استبدادية وحظى الفساد تحت لواء هذه الأنظمة بالحماية والرعاية، وارتبطت منظومة الفساد بمنظومة السلطة بزواج كاثوليكى لم يفضه سوى ثورات الشعوب.
ولعل أكثر ما يهمنا من هذا المؤتمر، هو الهجوم الذى شنه عدد غير قليل من المتحدثين فى المؤتمر على الدول الأوروبية والإشارات التى وردت حول تقاعس المؤسسات الأوروبية وتباطؤها المقصود فى التعامل مع ثروات الحكام الذى اطاحت بهم ثورات الربيع العربى. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الهجوم لم يأت من جانب متحدثين عرب وإنما من قِبل متحدثين أوروبيين وأمريكيين من الأكاديميين ومن العاملين فى مؤسسات النفع العام وجمعيات مكافحة الفساد والشفافية. وبالطبع جاءت الردود لتتحدث عن عدم قيام الدول العربية باستيفاء الأوراق الرسمية التى تنص عليها قوانين الدول المستضيفة لهذه الأموال. وكانت التعقيبات تأتى فى تجاه استنكار مدى جدية هذه المقولات والتساؤل عما إذا كانت هذه الضوابط قد وضعت أصلا لحماية الفاسدين والاستئثار بأموالهم إذا ما فقدوا الولاية عليها. ولم يخل الحديث من الإشارة إلى ازدواجية المعايير فى التعامل مع الدول النامية لاسيما فيما يتعلق بنهب ثروات القارة السمراء.
وأحد الموضوعات المهمة التى لاقت اهتماما كبيرا فى هذا المؤتمر والتى يجب أن نهتم بها أيضا فى مصر، هى كيفية تعامل الدول النامية مع مكافحة الفساد. والتجارب الدولية فى هذا المجال متعددة ولا نحتاج سوى أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون وألا نتعالى عن التعلم من دول نامية سبقتنا فى هذا المجال. والرسالة الرئيسية هى أن المجتمع يحتاج لأن يكون محصنا ضد الممارسات الفاسدة مثلما يحتاج الجسم البشرى لاكتساب المناعة ضد الميكروبات والفيروسات. ولايكون ذلك إلا ببناء مؤسسات قوية واستحداث تشريعات فاعلة وتنمية ثقافة مجتمعية تستهجن الفساد وبناء الكوادر القادرة على إدارة هذه المؤسسات وتطبيق هذه التشريعات وتنمية هذه الثقافة.
ولتفصيل ذلك واسقاطه على السياق المصرى، فإن الدول التى نجحت فى مكافحة الفساد لديها هيئات لمكافحة الفساد وهذا لا يتعارض مع المؤسسات الرقابية العديدة القائمة فى مصر. كما أن البناء المؤسسى لا يقصد به المؤسسات الحكومية فقط، وإنما الأهم هو وجود مؤسسات غير حكومية تتجاوز محنة انعدام الثقة فى كل ما هو حكومى، وتعتمد على العمل التطوعى وتعمل مستقلة عن الأجهزة الحكومية. وهنا يجب أن نشير إلى أن المبادرات التطوعية التى أفرزتها ثورة 25 يناير والتى قام بها شباب مصرى فى مجالات تتصل بمكافحة الفساد وبالشفافية وبرصد التجاوزات الانتخابية وبمواجهة التحرش وبرصد التجاوزات الشرطية كانت تتسم بالابداع وتنم عن أن هناك من الشباب المصرى من يقدر على إدارة المستقبل على نحو يدعو للتفاؤل. والمهم الآن أن تستمر هذه الجهود وتتضافر بحيث تتحول من مبادرات فردية إلى مؤسسات قوية مستقلة عن الحكومة.
والحكومة الذكية حقا هى التى لا تنظر لهذه المؤسسات غير الحكومية على أنها منافس يجب التخلص منه ولكن على أنها حليف فى العمل لمصلحة الوطن. وأن تعلم أن استيعاب هذه الجمعيات سواء بسيف المعز أو بذهبه هو شر مستطر لأن هذه الجمعيات تنجح فيما تفشل فيه الحكومات. وأن هذه الجمعيات إذا نجحت فإنها تقاسم الحكومات فى نجاحاتها أما إذا فشلت فإن الحكومات تتحمل الفشل بمفردها.
والضرورة الثانية من ضرورات مكافحة الفساد هى التدخل التشريعى والذى يتضمن القوانين التى تشدد العقوبات على الممارسات الفاسدة فى التعامل مع المال العام. إلا أن هذه الجزئية ليست كافية لأنها تتعامل مع العَرض وليس المرض، فيجب أن يواكب ذلك حزمة القوانين الخاصة بالشفافية وإتاحة المعلومات والتى يجب أن تعتبر أن حصول المواطن على المعلومات هو حق وليس منحة وأن تقديم الجهات الحكومية لهذه المعلومات هو واجب وليس تفضلا. وهنا يجب أن اشارك القارئ فى التجربة البرازيلية فى قيام الحكومة بإتاحة المعلومات، حيث صدر قانون إتاحة المعلومات فى أكتوبر 2011 وبدء العمل به فى مايو 2012، وكانت نتيجة الشهور الستة الماضية أن مرتبات جميع العاملين فى الحكومة البرازيلية بدءا من رئيسة الجمهورية حتى أصغر موظف فى الجهاز الإدارى متاحة لجميع المواطنين على موقع على الانترنت. وقد تلقت الحكومة حوالى 46 ألف طلب من المواطنين للحصول على معلومات وتم الرد على 43 ألفا وكان متوسط زمن الرد 10 أيام.
وللبرازيل تجربة فريدة فى التحول من الدعم العينى للدعم النقدى، حيث يتم تحديد المستحقين بناء على معايير معينة، ويتم وضع أسماء مستحقى الدعم النقدى فى كل تجمع سكنى (حى أو قرية) على موقع بالانترنت يكون متاحا لكل سكان التجمع السكنى. ومن حق أى مواطن أن يعبر عن إعتراضه على حصول مواطن آخر إذا كان لديه معلومات تثبت عدم أهليته للحصول على الدعم. وبذلك يمارس المواطن حقه بل وواجبه فى الرقابة الشعبية، ويكون فى ذلك معينا للحكومة فى توصيل الدعم لمستحقيه وهو هدف سعت جميع الحكومات المصرية منذ الستينيات إلى تحقيقه وأخفقت لأنها كانت تصر على أن تكون اللاعب الوحيد.
الجانب الثالث فى قضية مكافحة الفساد هو التغيير الثقافى وإعادة صياغة القيم التى تتعارض مع النزاهة والشفافية، وهناك قيم راسخة تعتبر أن قيام المسئول الكبير بتعيين أقاربه أو أهل بلدته «جدعنة»، وأن التهرب من دفع الرسوم الحكومية أو الضرائب «شطارة»، وأن الغش فى الامتحان «تعاون». والغريب فى الأمر أن مشاعر التدين التى تفيض بها قلوب المصريين لا تعير هذه الممارسات اهتماما ولا تخضعها لمعيار الحلال والحرام الذى تخضع له كثير من توافه الأمور. ويحتاج الأمر لجهد حثيث لإعادة تشكيل قيم المجتمع وثقافته حتى تصبح قيم النزاهة والشفافية قيما حاكمة فى كل تصرفاتنا اليومية. وهذا هو الجانب الأكثر صعوبة.
وفى النهاية، فإن مكافحة الفساد لا تتحقق إلا بتكامل المداخل التى تحدثنا عنها المدخل التشريعى والمدخل المؤسسى والمدخل الثقافى، والنجاح فى الحد من الفساد هو طوق نجاة للمجتمع المصرى ليس فقط لأنه سيوجه موارد مهدرة لتحقيق التنمية ولسد الحاجات الأساسية للمحرومين وإنما لأنه سيعيد الثقة والاحترام بين شركاء الوطن. أمامنا فرصة ذهبية لإعادة بناء الوطن فهل نقتنصها؟