نادرا ما تقوم الدول الغربية «بأفعال» أو «لا أفعال» تكون نتائجها إيجابية على التطور الديمقراطى فى الدول العربية. وهذا هو ما حدث بالضبط فى الحالة التونسية التى مازلنا نعيش فصولها الآن. فلحسن الحظ، صمتت أهم العواصم الغربية، وبالتحديد باريس وواشنطن، تجاه تطورات الأحداث المتسارعة منذ منتصف الشهر الماضى، وكانت الانتفاضة الشعبية أبعد ما تكون عن التأثير بأى عوامل خارجية، أو وجود لما تدعيه النظم العربية دائما من «أيدٍ أجنبية» تساهم فى سير الأحداث.
وكان الصمت الغربى ناتجًا عن عدم توقعهم بما ستسفر عنه الأمور فى دولة عربية عرفت بنظام لديه قبضة حديدية صارمة على مقدرات شعبه، ويتمتع بسمعة طيبة فى المجال الأمن الداخلى، حتى بالمعايير العربية. وهو سوء فهم غربى لما تستطيع أن تقوم به الشعوب العربية إن أرادت، أو أن يكون هذا الصمت ناتجا عن عدم رغبة العواصم الغربية فى تخيل حدوث سيناريوهات وتطورات إيجابية، هم أنفسهم لا يتمنوها لشعوب المنطقة.
ولم تقم واشنطن ولا باريس بإدانة ممارسات الرئيس التونسى السابق، زين العابدين بن على، حتى فى أواخر أيام النظام السابق! بل سارعت الخارجيتان الفرنسية والأمريكية، فور ظهور علامات الجدية على الانتفاضة التونسية إلى إصدار تحذير للفرنسيين والأمريكيين نصحتا فيه بتأجيل أى سفر غير ضرورى إلى تونس بسبب تزايد الاضطرابات وأعمال العنف السياسية والاجتماعية فى البلاد.
والأفعال أو اللا أفعال الغربية عموما لا تأتى فى صورة تحركات عسكرية أو مقاطعات اقتصادية أو تقليص التعاون الأمنى والاستخبارى، من قبل باريس وواشنطن. بل تأتى فى الأغلب فى صورة تصريحات سياسية أو بيانات صحفية.
ولم تكن تونس دولة تقع فى مجال الرادار الأمريكى الخاص بديمقراطية الشرق الأوسط، ولا تعرف دوائر واشنطن تكوينات منظمات المجتمع المدنى المستقلة، ولا أهم النشطاء التونسيين، على العكس من معرفتها الزائدة بالجمعيات والنشطاء المصريين. ولا يعرف وجود معارضين تونسيين لهم قيمة داخل الولايات المتحدة، كذلك لم تتكون «مجموعة عمل تونس» على غرار «مجموعة عمل مصر» الداعية لديمقراطية مصرية. ولم تتحدث افتتاحيات الواشنطن بوست عن قمع النظام التونسى بصفة دورية كما تفعل مع مصر، وكان من النادر أن تعقد ندوة أو حلقة نقاش عن التطور الديمقراطى فى تونس.
وقبل أن يهرب الرئيس التونسى، عبرت وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلارى كلينتون عن قلقها تجاه ما يحدث فى تونس، قائلة: «نحن قلقون بوجه عام من القلاقل وعدم الاستقرار».. وأسفت كلينتون على سقوط ضحايا، إلا أنها أكدت «نحن لا ننحاز إلى أى طرف، إننا نتمنى فحسب أن يتسنى التوصل إلى تسوية سلمية». وعندما سألت كلينتون عما تعتزم القيام به بخصوص الأزمة التونسية، ردت قائلة: «أعتقد أننا سننتظر لنرى.. أعنى أنهم الآن فى خضم أزمة، ونحن نود أن تتم تسويتها سلميا». وأكدت كلينتون أنها لم تتكلم لا مع الرئيس التونسى، ولا مع وزير خارجيته منذ بدء هذه الاحتجاجات.
ومن البيت الأبيض خرج بيان رئاسى، شجب فيه الرئيس باراك أوباما «العنف ضد المدنيين»، كذلك أشاد «بشجاعة ونبل الشعب التونسى»، بعدما غادر الرئيس زين العابدين بن على الأراضى التونسية. ولم ينس أوباما أن يدعو لالتزام الهدوء وتجنب العنف، والدعوة لاحترام حقوق الإنسان، إلا أنه لم يمتدح انتفاضة الشعب التونسى.
ومن باريس كانت الحكومة الفرنسية دائمة التعبير عن الإعجاب بما حققته تونس من تقدم ونماء، مؤكدة فى هذا السياق دعم فرنسا لحصول تونس على مرتبة الشريك المتقدم للاتحاد الأوروبى.
وخلال الأزمة الأخيرة، (وقبل أن يهرب الرئيس التونسى)، أعربت فرنسا عن «الأسف لأعمال العنف» فى تونس ودعت إلى التهدئة، كما أفادت وزارة الخارجية معتبرة أن «وحده الحوار» كفيل بتجاوز المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. وقد اكتفت فرنسا، التى تعد الشريك الأكبر لتونس اقتصاديا وثقافيا وسياسيا، بالدعوة إلى التهدئة دون الإشارة إلى قمع المتظاهرين واعتقال مدونى انترنت.
وكان أهم ما قام به الرئيس الفرنسى، نيكولا ساركوزى، هو عقد اجتماع عاجل بعد يوم من هروب الرئيس التونسى، لبحث «تطورات الوضع فى تونس» شارك فيه أركان حكومته.
من الطبيعى أن يظهر الموقف العربى الرسمى من التطورات الأخيرة فى تونس خجولا، حيث لزمت معظم الحكومات العربية ــ السبت ــ، بعد هروب الرئيس، الربكة والحذر وأحيانا كثيرة الصمت بعد سقوط نظام الرئيس التونسى تحت ضغط الجماهير، فى الوقت الذى دعت فيه الجامعة العربية إلى «التكاتف والتوحد»، إلا أن تبنى نفس الموقف من قادة «العالم الحر» والدول «الداعمة للحريات»، فرنسا وأمريكا، قدمتا ثورتين من أهم ثورات التاريخ البشرى، ومن العجيب وقوفهما صامتتين أمام ثورة مصدرها الشارع والشباب.
ترحيب باريس وواشنطن بالوعود التى قدمها الرئيس التونسى زين العابدين بن على يوم الأربعاء، قبل أن يهرب يوم الجمعة، وعدم مطالبتهما النظام التونسى بتبنى إصلاحات سياسية حقيقية فى هذه الظروف الاستثنائية، إنما يدل على أن «الديمقراطية» التى يستعملها الغرب فى خطابه السياسى بصورة شبه يومية، ويعلن تقديسها وضرورة نشرها، لا يقصد بها نشرها عربيا.
وزير الدفاع الفرنسى، آلان جوبيه، قال: «لا شك فى أننا أسأنا تقدير مدى غضب الرأى العام على نظام بوليسى وديكتاتورى»، إلا أن الوزير الفرنسى تجاهل وجود العديد من النظم البوليسية والديكتاتورية فى الدول العربية الأخرى التى لم تشهد انتفاضات شعبية تغير أنظمتها بعد. ديمقراطية العرب هى رهن رغبة الشباب العربى الذين نشهد زيادة أعدادهم، وزيادة فقرهم، وقلة أحلامهم.