في عالم أصبحت فيه السياسة «ذنب كلب الاقتصاد»، وأصبح الإعلام إحدى أهم وسائل مراقبة وتقييم النظامين، رهينة في يد القوى المالية الكبرى، لا يمكن الادعاء بشمولية أية أيديولوجية لا تعطى اهتمامًا كبيرًا بالجانب الاقتصادى، كمكونٍ شديد الوضوح ورئيسى من مكونات تلك الأيديولوجية.
لقد اعتبرنا، في مقال سابق، أن المشروع النهضوى العربى، بمكوناته الستة ــ الوحدة العربية، والديموقراطية، والتنمية المستقلة، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضارى، والعدالة الاجتماعية ــ كان مشروعًا أُريد به تطويرا وتجديدا للأيديولوجية القومية العروبية، بكل أنواع ظلالها وأحزابها، وأنه بالتالي عبارة عن مشروع متكامل لأيديولوجية قومية عروبية متجددة، أخذت بعين الاعتبار دروس الماضى، ومطالب الحاضر، وتطلعات المستقبل.
لكن الملفت أن المشروع تعامل مع الموضوع الاقتصادى، بالطبع بموضوعية وتفاصيل وحرفية رائعة، وذلك من خلال مكونى التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية. لكنه تجنب تسمية النظام الاقتصادى الذى تدعو له تلك الأيديولوجية، وهو أمر يدعو إلى الكثير من التساؤلات.
ذلك أن الأيديولوجية العربية القومية قد قامت في بداياتها، في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى، على شعارات الحرية والوحدة العربية والاشتراكية. بل إن الميثاق القومى الناصرى اعتبر الاشتراكية مدخلاً لتحقق الوحدة والحرية وأولاها الأولوية في القيمة والأهمية. ومن أجل التأكيد على أن الاشتراكية التى ترفع شعارها كل القوى القومية ليست مماثلة، وليست تقليدًا للاشتراكية الماركسية الأممية سماها البعض «اشتراكية عربية»، كتأكيد على خصوصية تعاملها مع الواقع المجتمعى العربى. وقد عبر عن ذلك مفكر وقائد حزب البعث العربى المرحوم ميشيل عفلق بقوله إن الاشتراكية العربية «هى للشعب كله، اشتراكية مستقلة لا تتبع مذهبًا معينًا.. وإنما تتلاءم مع روح الأمة ومع ظروفها وحاجاتها»، أي إخضاع الاشتراكية للعروبة.
فإذا كان الجانب الاقتصادى قد أُعطى تلك الأهمية فى تلك الأزمنة التى كانت الرأسمالية الكينزية الليبرالية المتوازنة إلى حد ما هى السائدة، فإن أهمية ذلك الجانب فى أزمنتنا قد أصبحت مضاعفة بعد أن أثبتت العقود الماضية بطلان العديد من الادعاءات الرأسمالية الكينزية الكلاسيكية طيلة القرن الماضى، وأظهرت عبر الأربعين سنة الماضية أمراض وجرائم وشطط وتوحش الرأسمالية النيوليبرالية العولمية التى يكتوى كل العالم بأزماتها المالية المتكررة، وبتدميرها لدولة الرفاهية الاجتماعية، وبازدياد أغنيائها غنى وفقرائها فقرًا، وبتكدس نصف ثروات العالم فى أيادى واحد فى المائة من سكانه، وبتهميش النقابات العمالية، وبتهديدها لأسس الديموقراطية السياسية وحرية الإعلام. وقد وصل الحال، كما وصفته جلسة نقاش سنة 2008 فى جامعة هارفارد عن مستقبل رأسمالية السوق، إلى حالة «من الخوف وعدم الأمان وعدم المساواة.. حيث المدراء التنفيذيون يتقاضون مداخيل تبلغ 350 مرة أجور العمال الأقل دخلا.
الآن بدأ الكّتاب في داخل قلاع الرأسمالية يذكّرون العالَم الرأسمالى بأن كينز، واضع أسس الرأسمالية الكينزية الكلاسيكية، كان أيضا من ناقدى النظام الرأسمالى والمحذرين من بعض نتائج تطبيقاته. لقد حذر من تأثيرات الرأسمالية على المدى الطويل على قيمة العدالة وطبيعة المجتمعات وأسس الأخلاق، بل ورأى في موضوعى الفائدة والريع عوائق أمام تحقق بناء مجتمع عادل ومنتج غير مضارب.
لكن الديموقراطية المشوهة والإعلام السجين فى الدول الرأسمالية قد نسيا كل ذلك النقد والتحذير.
أمام تلك التغيرات الاقتصادية الهائلة فى العالم كله ستحتاج الأيديولوجية القومية العروبية المتجددة أن تختار نوع النظام الاقتصادى الصالح لهذه الأمة وهذه المجتمعات العربية.
هناك مقترحات وهناك تجارب فى العالم تستحق أن ندرسها، ثم نقرر ما يصلح لنا، لنضيفه إلى أيديولوجيتنا القومية العروبية بدون غمغمة وبدون تجزئة.