جميل مطرمارست فى شبابى هوايات عدة كان من بينها مراقبة السعداء، أبحث عنهم وأتقصى أسباب سعادتهم، وأراقب سلوكياتهم وأقارنها بسلوكيات التعساء. تذكرت هذه الهواية خلال مناقشة دارت حول المزاج العام السائد هذه الأيام، مزاج يرفض الاعتراف بوجود سعداء بل يكرس التعاسة ويروج لها.
•••
سمعت أحدهم يدافع عن هذا المزاج ويبرره بزعم أننا شعب يميل إلى الحزن. شعب مكتئب بطبيعته وبحكم ديمومة ظروف بعينها، ومنها بخاصة خضوعه شبه المتواصل لقمع الدولة، وقمع الأهل، وقمع المجتمع، وقمع رؤسائه ومعلميه، وقمع المكلفين دستوريا وأخلاقيا بواجب حمايته. أستطيع، لو شئت ومستندا إلى تجارب من طفولتى، أن أؤيد هذا الزعم، فقد نشأت فى أجواء يغلب عليها الحزن أو تسعى إليه وتستعد للاحتفال بقدومه.
قريبات وأقرباء، اذكر لهم مواقف تكشف خوفهم من «السعادة». كانوا مع اقتراب مناسبات الفرح يتوترون بل ويتعمدون الخروج إلى المقابر لزيارة الأحباء والأهل والبكاء لتجديد الحزن على فراقهم، ويقضون هناك أوقات كان يفترض أن تكون أوقات فرح وبهجة. كثيرا ما كنا نسمع عبارة «اللهم إجعله خير» فى أعقاب لحظات مرح وصحة وسعادة. كانت السعادة بالنسبة لهؤلاء ومازالت لدى كثيرين تهديدا لحال مستقرة ومضمونة، حتى وإن كانت تعيسة.
•••
أذكر أيضا «ص»، الفتاة الضحوكة.. دائما تغنى ودائما ترقص ودائما تلقى بالنكات. تداعب الكبار وتلاعب أقرانها من الشباب، كانت تفرض علينا البهجة فرضا وتزيل الغمة وتنشر «السعادة» فى أرجاء البيت الكبير. وبقدر ما كانت تجلب لنا من سعادة كانت تجلب لنفسها غضب الباحثين عن التعاسة. هؤلاء كثيرا ما وصفوها بأنها « بنت هايفة»، وأحيانا» شابة خفيفة» وعوقبت مرات عديدة بالإقصاء لأنها « شيطانة ولعبية «. يهمنى طبعا أن أضيف أنها عاشت إلى سن متقدمة حياة سعيدة بمقاييس السعادة التى اختارتها لنفسها، وليس بمقاييس مجتمع العائلة الكبيرة.
•••
«الخوف من السعادة»، ظاهرة عادت إلى الانتشار، وتحظى الآن باهتمام كبير فى مجتمعا ت الغرب.. راح ظنى فى البداية إلى أن هذا الاهتمام صنعته بكفاءة شركات الأدوية العملاقة التى تنتج أقراصا ضد الاكتئاب. جرت العادة أن يبدأ الترويج للدواء الجديد بحملة إعلانية وأكاديمية وطبية، أى بمشاركة نوعية مختارة من الأطباء، تحذر من انتشار الاكتئاب أو غيره من الأمراض كحالة وبائية. اكتشفت فيما بعد أن الظاهرة حقيقية وليست من تدبير شركات لها مصلحة. وراح باحثون ينقبون عن أصل الظاهرة وأسباب انتشارها، وبالفعل ذهب أحدهم، وهو من نيوزيلنده، إلى حد صنع مقياس يقيس به درجة «الخوف من السعادة».
•••
باحث آخر فى إنجلترا عكف على دراسة توصل فى نهايتها إلى أن هناك «ثقافات» تميل بطبيعتها إلى الحزن والكآبة، وثقافات أخرى تسعى بدأب ودون كلل عبر القرون وراء السعادة والمتعة والبهجة. يقول فى دراسته إنه بحث حالات كثيرة لأفراد يقلقون إذا خلت حياتهم من مشكلات، وأفراد، وربما ثقافات بأكملها، تعتبر أن ذروة «السعادة» هى فى الكسل. هؤلاء الأفراد يقضون أجازاتهم نياما أو مسترخين، فالسعادة عند هؤلاء أن لا يعملوا أو يبذلوا جهدا.
اعرف أصدقاء كثيرا ما أعربوا عن الخوف من أن يعيشوا لحظات سعادة سرعان ما تنتهى. لا يقومون برحلة خشية أن يقضوا وقتا ممتعا وتنتهى الرحلة ويعودوا إلى عملهم. ذكرنى أحدهم بالتعساء من زملائنا فى المدرسة الذين كانوا يكرهون يوم الخميس لأنه بداية أجازة نهاية الأسبوع التى ستنتهى يوم السبت بالعودة إلى المدرسة.
•••
ينقل بول جيلبرت فى دراسة حديثة عن الخوف من السعادة عن شخص قال إنه لا ينتظر أن يعيش يوما سعيدا لأنه لا يستحق السعادة، أمثال هذا الشخص، وهم كثيرون، قد تطرق أبواب حياتهم السعادة ولن ينتبهوا وسيفوتهم الاستمتاع بملذاتها ومتعها. بعض هؤلاء قد تتاح لهم فرصة حب وعشق ستضيع حتما بسبب إقتناعهم بأنهم ليسوا أهلا للسعادة أو ليسوا مستعدين لها.
•••
كثيرة هى النصائح التى يعرضها خبراء التعاسة والسعادة من علماء النفس وغيرهم من محبى الحياة. ينصحون بالخروج إلى حيث توجد المناظر الجميلة فالطبيعة ،هى كما يقولون، وقود الروح، وهى دائما مبعث الأمل والتجديد. ينصحون أيضا بالابتعاد عن الحديث التافه وعن الانشغال بتوافه القضايا، وعن «الشكاءين» و«الزنانين»، وعن الانغماس فى استخدام وسائل التواصل الاجتماعى، فهى ليست اجتماعية وليست بريئة من مسئولية نشر الكآبة، فضلا عن أنها لا تحقق وظيفة «الاكتفاء الاجتماعي» طالما ظلت عاجزة عن توفير التواصل الحسى والجسدى. ينصحون أيضا بالاقتصاد وتوخى الحذر فى استعمال الابتسامات المزيفة والمصطنعة أو المرسومة بشكل دائم على الشفتين وفى المبالغة فى تخفيف الظل، كلاهما من أهم مصادر التعاسة، يخدعان الآخرين بعض الوقت ويؤذيان صاحبهما طول الوقت.
•••
صراخ الطفل ساعة يولد، يكون لخوفه من سعادة تنتظره فى عالم أرحب وأكثر تنوعا من العالم الذى خرج منه لتوه، سعادة تتحقق لفترة وجيزة وتنتهى فلا تعود. أم لافتقاده مكانا آمنا استضافه بكرم بالغ وحب لا يجارى شهورا تسعة. فى هذا المكان عرف السعادة الحقيقية، التى لن يشعر بمثلها بعد الآن. لن يجد بعد اليوم من يبادله حبا كهذا الحب