دستورنا.. ودستور ديجول
حتى إذا اختلفنا مع الرئيس حسنى مبارك فى قوله ــ فى احتفال الذكرى الأربعين للمحكمة الدستورية فى الأسبوع الماضى ــ إن الدستور المصرى بصيغته الراهنة هو الذى يحفظ لمصر تماسكها واستقرارها، فلابد أن نعترف للرجل بأنه لا يقول ذلك على سبيل المناورة لقطع الطريق على مطالب الإصلاح السياسى ابتداء بتعديل الدستور، وإنما هو يعبر عن اعتقاد حقيقى ينبع من خبرة وتراث مؤسسة الرئاسة فى عصور ثورة 23 يوليو الثلاثة.
لهذا السبب ينبغى أن تتجه المناقشة العامة ــ من وجهة نظرنا ــ إلى هذه المسألة.. أى مسألة تماسك مصر واستقرارها فى إطار متغيرات كثيرة تجعل الحاجة ماسة إلى الإصلاح الدستورى، كمدخل للإصلاح السياسى، من وجهة نظر المطالبين بالإصلاح على الناحيتين، ونحن منهم.
فى تقديرى أن ما يقصده الرئيس من القول بأن الدستور الحالى يحفظ لمصر تماسكها واستقرارها، يمكن أن يفهم من مستويين: الأول هو النص على مدنية الدولة، وتركيزه فى التعديلات الأخيرة على مبدأ المواطنة، والثانى هو المكانة الخاصة لرئيس الجمهورية فى النظام السياسى، والسلطات الواسعة الممنوحة له فى نصوص الدستور.
فى المستوى الأول ليس من الصعب اكتشاف أن الحظر الذى تعصم منه مصر النصوص الدستورية الخاصة بمدنية الدولة، ومبدأ المواطنة، هو الانقسام الطائفى بين المسلمين والمسيحيين، والمعنى الأعمق هنا أن الدستور حين يحول دون قيام على أسس دينية، إنما يحول دون وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة، ولكن من المنبع ذاته، لأنه يحول دون منحها الشرعية القانونية بحكم دستورى يعلو ويجب أى تشريع قانونى، وفى الوقت نفسه، وبالدرجة نفسها من الحسم فإن الدستور يحول دون قيام أحزاب مسيحية (أو قبطية تحديدا فى الحالة المصرية)، فيدرأ مقدما ومن حيث المنبع انقسام الجماعة الوطنية، وتفسخ إرادتها، ويدرأ فى الوقت نفسه ارتباط تلك الأحزاب بأى انتماءات أو تحالفات خارج الحدود، أو فوق وطنية كما يقول الباحثون الأكاديميون.
فى هذه النقطة أحسب أن الغالبية من المصريين تؤيد الرئيس مبارك بلا تردد، والغالبية هنا تعنى غالبية المسلمين والأقباط، إما على مستوى الأفراد، وإنما على مستوى التنظيمات والمؤسسات الرسمية، وغير الرسمية، وقصارى ما يمكن أن يضيفه أحد هو أن مدنية الدولة، وإعلاء مبدأ المواطنة، وحظر الأحزاب الدينية.. كل ذلك ينبغى ألا يخل بوجود الاعتراف بالطابع العام للدولة، واحترام هذا الطابع، وهو طابع عربى إسلامى بلا خلاف، وهذا أيضاً يقره الدستور الحالى حين ينص على أن الإسلام هو الدين الرسمى، وأن الشريعة الإسلامية مصدر أساسى للتشريع، وأن اللغة العربية هى اللغة الرسمية لمصر.
إذن لا خلاف جوهريا حول هذه النقطة، وإن اختلف حول بعض التفاصيل، ولا يعود هذا الاتفاق إلى عصر أو عصور ثورة يوليو فحسب، وإنما هذا هو ما استقر عليه ضمير الجماعة الوطنية بوضوح وبالاختيار الحر منذ الثورة العرابية، وتأكد نهائياً فى ثورة 1919 ودستور 1923، ففى دستور الحزب الوطنى الأول الذى قاد الثورة العرابية ومؤسساتها المدنية كان تعريف المواطن المصرى، هو كل من «حرث أرض مصر، أو شرب ماءها، أو تنسم هواءها»، وكان من أعضاء المجلس العرفى الذى تولى شئون البلاد ممثلاً للسيادة عندما تقرر عزل الخديو رؤساء الأديان الثلاثة الإسلام والمسيحية واليهودية على قدم المساواة.
وفى دستور 1923 تبلورت بصفة نهائية شخصية الجماعة الوطنية المصرية، واستقر اعتبار المواطنة بغض النظر عن الدين أو العون هى أساس الولاء السياسى، ورفضت من جانب الأقباط بكل المسلمين كل مقترحات التمثيل النسبى للأقليات وكانت الأقليات هى السباقة كذلك إلى رفض عروض الحماية الأجنبية.
هذا عن المستوى لأول فى فهم قصد الرئيس مبارك من قوله إن الدستور الحالى يضمن لمصر تماسكها واستقرارها، أما عن المستوى الثانى والمتعلق بالمكانة الخاصة لرئيس الجمهورية فى النظام السياسى الذى يقيمه هذا الدستور، وبالسلطات الواسعة التى يمنحها الدستور للرئيس طبقاً لتلك المكانة، فلا نظن أن الإجماع الوطنى منعقد عليها بمثل انعقاده حول المستوى الأول المتعلق بمدنية الدولة، والمواطنة، وحظر الأحزاب الدينية، لكن ينبغى أن نفهم منطق مؤسسة الرئاسة فى هذا السياق طبقاً للخبرة المتوارثة فيها، وطبقاً لتصريحات متعددة سابقة للرئيس مبارك نفسه.
من تلك التصريحات دعوة الرئيس أكثر من مرة للمطالبين بتعديل الدستور للحد من سلطات رئيس الجمهورية، ولتحديد فترات الرئاسة بدورتين إلى تذكر تاريخ مصر جيداً قبل الثورة، وقوله إن استقرار مصر يتطلب وجود حزب كبير فيها، وبالطبع سيكون هذا الحزب هو حزب الرئيس: وما يقصده الرئيس هنا تحديداً هو أن مصر لم تعرف قبل الثورة استقراراً للحكومات، بسبب صراع الأحزاب.
ولا شك أن هذا الصراع كان سبباً مباشراً فى إخفاق نظام مصر السياسى المؤسس على دستور 1923، وبالتالى فقد كان هذا الإخفاق سبباً مباشراً أيضاً فى قيام ثورة يوليو، واستيلاء الجيش على السلطة، وما أعقب ذلك من إقامة نظام دستورى وسياسى جديد يجعل من شخصية الرئيس ودوره هما محور النظام، وضمان الاستقرار، بإبعاد مؤسسة الرئاسة وشخصية الرئيس عن صراعات الحياة السياسية اليومية، وخلافات الأجنحة والأجهزة، وهو الدور الذى وصفه الرئيس الراحل أنور السادات ــ رحمه الله ــ بقوله إن دستور 1971.. إن الدستور الحالى «جعل الرئيس حكماً بين السلطات»، أكثر من كونه رئيس السلطة التنفيذية، ومن هنا منح الدستور رئيس الجمهورية هذه السلطات الواسعة حتى يستطيع القيام بدور الحكم، وضامن الاستقرار، وضابط الصراعات، وكذلك ألغى تعديل لاحق النص على تحديد الفترات الرئاسية بفترتين، ليس فقط استمراء للسلطة، ولكن أيضاً إعمالاً لفلسفة أن رئيس الجمهورية شخصاً ودوراً هو محور النظام السياسى المصرى.
لكن ما كان ضرورياً أو صالحاً فى مرحلة من مراحل التطور السياسى لبلد ما ــ بما فى ذلك مصر ــ ليس من المحتم أن يظل صالحاً إلا ما لا نهاية، بل ربما أصبح قيداً على التطور السياسى، ومن ثم يصبح فى حد ذاته سبباً لعدم الاستقرار، ولتفجر الصراعات، وهذا هو ما يحدث فى مصر حالياً.
ولمزيد من التوضيح لماذا لا نقارن حالتنا الدستورية كلها، بالحالة الدستورية الفرنسية، باعتبار أن دستور مصر العام 1971، وكل الدساتير السابقة عليه بعد انفصام الوحدة مع سوريا مستلهمة فى واقع الأمر من دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية، أى دستور الجنرال ديجول؟.
فلقد وضع ديجول هذا الدستور حين جاء إلى السلطة فيما يشبه الانقلاب العسكرى لعلاج المرض الذى أسقط الجمهورية الرابعة، وهو مرض عدم استقرار الحكومات، وكانت الجمهورية الرابعة الفرنسية تعتمد النظام البرلمانى، أى أن منصب رئيس الجمهورية كان بروتوكولياً فقط، فى حين كان رئيس الوزارة هو القائد الحقيقى للنظام السياسى، ولما كان المجتمع الفرنسى منقسماً بالتساوى تقريباً بين أحزاب اليمين وأحزاب اليسار، ولما كانت الأحزاب الكبيرة متقاربة الشعبية، وكذلك الأحزاب الصغيرة، فقد كان من الصعب أن تصمد أى حكومة فترة كافية فى مواجهة المناورات الحزبية، ولم يجد الجنرال ديجول الذى جىء به من العزلة لإنقاذ فرنسا من نفسها حلاً سوى استحداث مؤسسة رئاسة تعلو فوق الأحزاب، وتتمتع بضمانات تحميها من تلك الانقسامات والمناورات الحزبية، وقد قبل الشعب الفرنسى هذا المنطق تحت وطأة الفشل العسكرى فى الهند الصينية، ثم فى الجزائر، وهكذا أصبحت لرئيس الجمهورية سلطات واسعة فى الدفاع والسياسة الخارجية، لا يتدخل فيها رئيس الحكومة، وتحددت فترات انعقاد البرلمان بغرفتيه (الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ)، والأهم أن دستور 1958 الفرنسى جعل مدة الرئاسة سبع سنوات كاملة، ولم يضع أى قيد على عدد الفترات الرئاسية للشخص الواحد.
ولا جدال فى أن دستور الجمهورية الخامسة أنقذ فرنسا من كارثة عدم استقرار الحكومات، ومن تناحر ومناورات الأحزاب الصغيرة، والكبيرة على السواء، لكن مرور الوقت، والتطور السياسى والاجتماعى للبلاد، وبمعنى آخر انتهاء الظروف الاستثنائية التى تطلبت كل هذه الامتيازات والسلطات لساكن الإليزيه أدى إلى تململ الفرنسيين ثم ثورتهم على هذا الوضع (ثورة الطلبة 1968)، فاستقال ديجول نفسه بعد رفض تعديلاته الدستورية التى حاول أن يستجيب بها للمتغيرات الجديدة، ثم جاء خليفته الديجولى جورج بومبيدو ليقر تعديلات تحد من سلطات الرئيس، وتزيد من سلطات البرلمان، وبعد أن بقى الرئيس فرانسوا ميتران فى السلطة فترتين رئاسيتين أى 14 سنة أصيب قرب نهايتها بمرض خطير، اتفق الفرنسيون من جميع التيارات على أن الدستور يحتاج إلى تعديل إما بالأخذ بمبدأ الفترة الرئاسية الواحدة لمدة 6 أو 7 سنوات، وإنما بإطلاق عدد فترات الرئاسة مع تقليل الفترة الواحدة من 7 إلى 5 سنوات، والمدهش أن نفذ هذا التعديل، وكان أول ضحاياه ــ إن جاز هذا التعبير ــ هو الرئيس جاك شيراك تلميذ ديجول، وآخر رئيس وزراء تحت رئاسة الجنرال.
ماذا عن الحال فى مصر؟.. لاشك أن سبعاً وثلاثين سنة مرت منذ إقرار دستور 1971 جاءت بمتغيرات كثيرة، ودفعت التطور السياسى فى البلاد مراحل عديدة، منها انتهاء الحزب الواحد، وتحرير الاقتصاد، وزيادة عدد المتعلمين والمهنيين، فضلاً عن بلوغ الدولة حجماً سكانياً يجعل إدارتها بالطريقة السابقة أمراً غاية فى الصعوبة.. وكل هذه متغيرات تفرض الحاجة إلى توسيع نطاق المشاركة، وإلى تقويض للسلطات، وإطلاق الطاقات والمبادرات الخاصة والفردية، وكل ذلك يحد منه تركيز عملية صنع القرار فى مؤسسة الرئاسة، وفى الوقت نفسه يحملها فوق طاقة أى مؤسسة، وفوق طاقة أى بشر، وبذا تصبح النصوص التى كانت ضامنة للاستقرار وضابطة للصراعات وحافظة للتماسك فى الماضى قيداً على الحاضر، ومصادرة للمستقبل.