ما كدْتُ أحط الرحال عائدا إلى القاهرة من الجزائر الشقيقة (وفق ما تم التطرق إليه فى مقالنا السابق على صفحات «الشروق») حتى وصلتنى دعوة كريمة من تونس الخضراء. كانت هذه دعوة مشتركة من «مركز الجامعة العربية بتونس» (ممهورة بتوقيع رئيس المركز، صديقنا الهُمام الدكتور عبداللطيف عبيد) ومن «المعهد التونسى للدراسات الاستراتيجية» ومديره الدكتور ناجى جلول. كان الغرض من الدعوة المشاركة فى ندوة لمدة يوم واحد (الأربعاء 13 مارس) فى قصر الضيافة الرئاسى بقرطاج، وموضوعها (رهانات العمل العربى المشترك فى ضوء التحولات الإقليمية والدولية). واقترح على المنظِمون أن أتحدث حول السؤال: ( أية آفاق للتكامل الاقتصادى العربى..؟). وقد حِرْتُ جوابا ــ ولكن د.عبداللطيف عبيد خفف عنى مؤونة الحيرة فاقترح أن أستعرض عدة (سيناريوهات) مستقبلية حول الموضوع. وهكذا كان. وخفت مؤونة الحديث أكثر من ذلك، إذ لم أجدْ حاجة لمعالجة تجربة العمل العربى المشرك من حيث ماضيها ودروسها؛ فقد تولى هذا الموضوع فى الندوة صديقنا الدكتور حكيم بن حمودة ( وزير المالية التونسى الأسبق). بيْد أن الأمر كان محيرا مرة أخرى؛ فماذا عساىَ أن أقول فى حدود الوقت المتاح (عشرين أو ثلاثين دقيقة)، وقد كان الحضور ُثلة من «نخبة النخبة» التونسية العريقة، من أهل الفكر ومن المهنة الدبلوماسية...؟
***
وأخذت أستعرض فى سرعة ثلاثة مشاهد مستقبلية متصورة (سيناريوهات) تمثل الطريقة «الكلاسيكية» فى التقسيم، أىْ محاولة بناء ثلاثة بدائل: الأول يمثل استمرار الوضع القائم فى المستقبل، والثانى يمثل تعديلا معتدلا فى ذلك الوضع، والثالث يمثل تغييرا جذريا، بمعنى بناء تصور لمستقبل جديد كليا. وكان سيناريو استمرار الوضع القائم يمثل بديلا كارثيا حقا، فقد أسفرت تجربة التعاون والتكامل الاقتصادى العربى – على المستوى الرسمى – منذ إنشاء جامعة الدول العربية عام 1945 وحتى الآن، أى على مدى سبعين عاما ونيف، أو ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، عن محاولة متعثرة فى إطار مدخل واحد بعينه للتكامل هو ما يسمى بالمدخل التجارى. وكان يعنى هذا المدخل، فى الحالة العربية، تشجيع المبادلات التجارية البينية، ولكنه تم دون محاولة جادة للانتقال من حيز التجارة إلى الاقتصاد بالمعنى الأوسع، وخاصة من حيث إعادة صنع السياسات الإنتاجية المشتركة.
وأوضح الأدلة على ذلك، أن التجارة العربية البينية لم تزد نسبتها من إجمالى التجارة الخارجية للدول العربية عن نحو 10%، وبالزيادة الطفيفة أو النقص الطفيف بين الفيْنة والأخرى.
ورغم العمل الإيجابى المتمثل فى إنشاء (منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى) ودخولها حيز النفاذ الكامل منذ عام 2005، بالإلغاء الكلى للضرائب الجمركية و (الرسوم ذات الأثر المماثل) على السلع المتبادلة، إلا أنها تعانى من مشاكل جمة يعرفها جيدا أهل الاختصاص. وإذن فإن ذلك السيناريو الأول، المتعلق بامتداد الوضع الراهن إلى المستقبل، يمثل تكريسا لإخفاق المدخل التجارى البحت للتكامل الاقتصادى العربى.
ولقد جرت محاولة الالتفاف على فشل المدخل التجارى للتكامل العربى، بإقامة صيغ فرعية، متمثلة فى تجارب عدة، بعضها لم يزل قائما فى الحقيقة، ولو على ساقٍ واحدة فيما يبدو، خلال الآونة الأخيرة (مجلس التعاون الخليجي) وبعضها لم يزل قائما «على الورق» إلى حد بعيد (اتحاد المغرب العربى) وبعضٌ اندثر (مجلس التعاون العربى ــ فى أواخر الثمانينات ــ والذى كان مكونا من مصر والأردن واليمن والعراق).
وأما السيناريو الثانى ــ والذى رأيته ممكن الحدوث، بافتراض وجود قوة ضغط فعالة من الجذور الاجتماعية العربية ــ فإنه يمكن أن يشهد حل المشكلات المسببة لتعثر المدخل التجارى، وخاصة من حيث التوصل إلى إتفاق متكامل حول «قواعد المنشأ» و«الحواجز التجارية غير الجمركية»، وتنظيم تجارة الخدمات... إلخ. كما يمكن، من جهة ثانية، الولوج من المدخل التجارى إلى «المدخل الإنمائى»، وخاصة من حيث تنسيق السياسات الاقتصادية لمواكبة التطور المنتظر فى التجارة البيْنية. ويمكن من ناحية ثالثة، إعادة تفعيل مجلس التعاون الخليجى واتحاد المغرب العربى، مع تأسيس جسور واصلة بين كل منهما كتجمع فرعى وبين التجمع العربى الكبير ممثلا فى مؤسسات العمل العربى المشترك التى تسهر عليها «جامعة الدول العربية». وحين نتحدث عن مثل هذه الجسور الرابطة بين بلدان الوطن العربى، مشرق ومغربا، فإننا نستبعد أمثلة للصياغات المستحدثة المرتبطة بكتل إقليمية معينة، وذلك مثل «اتفاق أغادير» بين كل من المغرب وتونس ومصر والأردن. ويقوم هذا الاتفاق الأخير على تشجيع (الشراكة) بين الدول العربية المعنية والاتحاد الأوربى على أساس من تطبيق قاعدة «المنشأ التركمى». وهذا يعنى أن السلع المنتجة فى الدول العربية الأربعة معا، على أساس مكونات مستوردة من الدول أعضاء الاتحاد الأوربى، يمكن لها أن تتمتع بمعاملة جمركية تفضيلية فى هذه الدول الأخيرة، فى حال وصول المكون العربى المشترك لها إلى نسبة 40%.
وقد وجدت أنه، حتى بافتراض تحقق السيناريو الثانى، فإنه لا يلبى التطلعات العربية نحو بناء جماعة اقتصاية عربية، تشكل قوة فاعلة فى العلاقات الدولية عموما، وفى بنية المنظومة الإقليمية خصوصا. وتشتد الحاجة إلى ذلك فى ضوء التعثر الراهن ضمْن ما يمكن أن يسمى بالمنظور التاريخى الحضارى: (المنطقة العربية – الإسلامية المركزية) على وقع التنازع بين الدول العربية، من جانب، أو بعضها بالأحْرى، وبين كل من الدولتيْنــالأمتيْن الإيرانية والتركية، من جانب آخر، بفعل الاختراق الأجنبى وعوامل داخلية متنوعة.
***
ولذا فقد حاولت أن أقدم رؤية مستقبلية (من وحى المزاوجة بين الواقع والخيال) للتكامل الاقتصادى العربى تمثل «السيناريو الأمثل» أو «السيناريو الثالث الجذرى». وأثارت محاولة تخيل هذا السيناريو اهتمام الحاضرين فى الندوة بما يتراوح بين الاستنكار وبين الاستحسان للمحاولة من حيث المبدأ،و كان لسان حال بعض آخر هو: (لا بأس من المحاولة على أى حال)، وردد واحد من الأصدقاء، هذا لسان حاله، قول الشاعر القديم:
مُنى إن تكنْ حقا تكنْ أحسن المُنى... وإلا فقد عشنا بها زمنا رغْدا
و لكن فرضيتى أو حجتى الأساسية استندت إلى الحقائق الآتية:
1ــ إن التجارب التوحيدية والتكاملية الناجحة فى التاريخ العالمى الحديث والمعاصر استندت إلى دور فاعل لإحدى القوى ذات القدرة على قيادة العملية التوحيدية والتكاملية، وذات الإرادة، فى نفس الوقت، على مستوى النخب المجتمعية ونخبة السلطة فى آن معا (تجربتا الوحدة الألمانية والوحدة الإيطالية فى النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وتجربة الاتحاد الأوروبى بعد الحرب العالمية الثانية...إلخ).
2ــ إن النجاح النسبى ثم الإخفاق والتعثر فى مسيرة التكامل العربى يرتبط بالنجاح النسبى، أو الإخفاق والتعثر، فى دور المحور القيادى الذى تمثله الدولة المصرية بشكل خاص. فحينما نشط الدور المصرى، توحيديا وتكامليا، تحققت تجارب ناجحة نسبيا للوحدة العربية وللعمليات التكاملية، فى عقدَى الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم بصفة محددة.
وكان ذلك راجعا إلى القدرة النسبية العالية لمصر، اقتصاديا وثقافيا بالذات، ضمن محيطها العربى، وإلى الإرادة السياسية التوحيدية المتوفرة آنئذ لدى القيادة الناصرية. ولكن، حينما انكفأت مصر على نفسها، من بعد حرب أكتوبر 1973 وخاصة بفعل تداعيات التسوية المنفردة للصراع العربى/الصهيونى منذ كامب ديفيد1977، فقد توقفت «المشاريع الوحدوية» وتعثرت التجارب التكاملية.
3ــ إن مصر فى وضعها الراهن، ومنذ عقود قليلة خلت، لم تعد تملك التفوق النسبى فى المحيط العربى، اقتصاديا وثقافيا؛ ومن ثم فقد افتقدت «عامل القدرة»، ثم أنها غدت تفتقد عامل الرغبة» فى قيادة العمل العربى المشترك بفعل انبعاث النزعات التجزيئية (القطرية) فى مختف الدول العربية دون استثناء (ومنها مصر). وقد تعمق ذلك من خلال ميل شرائح من النخب الثقافية فى الدول العربية إلى تبنى منظور «إسلاموى» غير ذى مصداقية؛ إضافة إلى أخطاء «دراماتيكية» لبعض النظم العربية فى غياب الدور القيادى المصرى. وأما عن تتابع الاختراقات الأجنبية (الغربية والأمريكية) فى الحالة العربية فحدثْ ولا حرج.
4ــ إن تحقيق الأمل المرجو فى قيام جماعة اقتصادية عربية فعالة ضمن المنظومتين الإقليمية والدولية لم يعد يجوز تعليقه على دور قيادى مصرى منفرد، هذا الدور الذى لم يعد مقدورا عليه ولا هو مرغوب. وإنما ينبغى ــ على مستوى الجذور وفى قلب الصفوات الثقافية ــ العمل على بناء محور قيادى جديد، ليس منفردا كما كان عليه الحال فى الخمسينيات والستينيات، وإنما هو محور جماعى من عدد من القوى العربية ذات القدرة وذات الرغبة فى ذلك. وقد قدمتُ فى هذا السياق بعض التفاصيل المتخصصة حول ماهية الجماعة الاقتصادية العربية المأمولة، والطريق إلى تحقيقها.
5ــ ونمضى فى السيناريو الثالث «المتخيل» «الأمثل» لنرى أن استنهاض التكامل العربى رهين بأمريْن، أولا: بناء وضعية استقلالية، وسياسة استقلالية، عن الكتل الدولية الكبرى المهيمنة، وخاصة الكتلة الغربية بالقيادة الأمريكية. ثانيا: ضرورة تغليب الروابط التاريخية والحضارية ذات البعد المستقبلى المرجو، بين الأمة العربية وكل من الأمتيْن الإيرانية والتركية، فوق عوامل التنازع الراهن على وقع انقسامات تدميرية (مثل سُنة / شيعة...إلخ). ثم أن هذا وذاك يكفل بناء قوة مشتركة (عربية ــ إيرانية ــ تركية) ذات طابع عالمى وتاريخى ــ حضارى، يمكنها أن تواجه، بوسائل متنوعة، الأعداء التاريخيين للأمم الثلاثة، وأولها عدو معروف ومعرف بدلالة مشروع دولة عنصرية خالصة، توافقا منا مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974 بأن (الصهيونية صورة من صور العنصرية)، والتى رجعت عنه بعد ذلك بضغط معروف.
.... وفى نهاية مداخلتى فى الندوة المعقودة فى تونس الشقيقة، قلت إن ما ذكرته قد يدخل فى باب «التخيل»، ثم أردفتُ مايلى: (هل تجاوزنا فى الخيال؟ ولم لا..؟ وهل تحققت المستقبلات الحضارية بدون مشاريع للأمل على الورق وعلى صفحات الأثير؟ فليكنْ خيالنا مقدمة لعملنا إذن. ولنسْعَ نحو مستقبل زاهر، انطلاقا من هذا الخيال الخصيب).