تبدأ نشرة الأخبار متأخرة عن موعدها، ويطل المذيع على مشاهديه ببرود شديد وبغطرسة ملحوظة ولا يظهر عليه ما يدل على أنه يشعر بالحرج، ولا يعتذر.
جلس صاحبنا متأففا فالمداولات كانت مثيرة لانفعالات شتى. غضب بعض الحاضرين وخرج من الاجتماع، وأمسك بعض آخر عن الكلام تفاديا للنطق بكلمات غير محسوبة. وفى لحظة انتقل صاحبنا من تأففه الصامت إلى صراخ صاخب وعندئذ خرجت من فمه كلمات خدشت حياء النساء. احمرت وجوه وطأطأت رءوس وصاحبنا لم يصدر عنه ما يدل على أنه يشعر بالحرج، ولم يعتذر.
الطفل يركض فى ممر الطائرة رائحا غاديا ومصدرا أصواتا مقلقة ومضيفا إثارة إلى أعصاب ركاب أعصابهم أصلا مثارة. حاولت مضيفة، بكل الأدب المتوافر فى ثقافة فتاة من الصين، وحاولت مضيفة أخرى، بكل التواضع المتوافر فى سلوكيات فتاة فليبينية، فكان نصيبهما الركل فى ساق أو أخرى. نهض راكب أسترالى وأوقف الطفل ونهره بشدة.
نظر الطفل إلى أبيه بغضب فقام الوالد وذهب إلى حيث يجلس الراكب الأسترالى وراح يعاتبه ويتهمه بأنه بمثل هذا التصرف يسىء إلى صحة الطفل النفسية ومستقبله.
ركاب آخرون، وأنا منهم، ارتسمت على وجوههم ملامح الشعور بالخجل بسبب ما ارتكبه الطفل. أما الأب والأم فلم يتصرفا التصرف الذى يدل على أنهما يشعران بالحرج.. وبطبيعة الحال لم يعتذرا.
يبدو أن الحرج لم يعد من العادات التى يحرص الناس على التزامها. كنت أعرف أن الإنسان عندما ينتابه شعور بالحرج بسبب خطأ ارتكبه أو تجاوز وقع فيه زم شفتيه واحمرت وجنتاه وزاغت عيناه هربا من عيون الآخرين، اختفى الحرج أو كاد يختفى مع أشياء أخرى سبقته واختفت، ولم يترك خلفه ما يحل محله.
سمعت رجلا تقدم به العمر يشكو الحنين إلى وجوه تكتسى بحمرة الحرج. يلقون باللوم على المسلسلات التليفزيونية خاصة ما يسمى بتليفزيون الواقع حيث يفقد الشخص بإرادته الحرة خصوصيته ويقف لا يستر سره عن الآخرين ساتر. أم إن التقدم الالكترونى مسئول؟. الفرد منا حين سمح لمسئولين فى الحكم والأمن أن يخلعوا عنا ملابسنا أثناء مرورنا أمامهم عبر أجهزة الكشف عن المتفجرات وهم لا يمرون، ويفرغوننا من أسرارنا أثناء التنصت على مكالماتنا وحواراتنا فى بيوتنا ومكاتبنا، ويعدون علينا خطوات نمشيها وأماكن نرتادها بفضل آلات تصوير مخبأة أو مشيدة.
قال لى صديق فى مدينة دبى إن سلوكيات السكان تغيرت منذ أن عرفوا من رئيس الأمن هناك أن نحو عشرين ألف كاميرا تراقب كل زوايا المدينة والبنايات، مداخلها وداخلها والمطارات والمطاعم والشواطئ والسيارات. وقال: «فقدنا الشعور بالحرج منذ أصبحنا فرجة لمن يساوى ومن لا يساوى».
خسارة كبيرة أن نفقد الشعور بالحرج، فالحرج كالخجل إجراء تصحيحى لخطأ نرتكبه أو زلة لسان أو سلوك غير مناسب. ويختلف الحرج عن الشعور بالعار، أو حتى بالعيب، فالشعور بالعار إجراء عقابى يحتوى دائما على الشعور بالذنب. كان يقال إن الحرج بارومتر يقيس مدى تحضر المجتمع ومدى تخلفه.
يقول ارفنج جوفمان Goffman عالم الاجتماع « قبل أن نبحث عن علامات انتماء فرد إلى وطن أو عائلة أو نادٍ من النوادى، يجب أن نتأكد أنه يصلح أن يكون عضوا محترما، أى أن تكون سلوكياته وتصرفاته الاجتماعية سليمة». ما قيمة انتماء إنسان فاسد لأى جماعة وطنا كانت أم عائلة أم ناديا؟ ما قيمة عاطفة كالحب مثلا إذا كان طرف فى العلاقة كاذبا أو مخادعا؟
يقول عالم النفس فى جامعة بركلى بكاليفورنيا داشر كيلتنر Keltner إن الإشارات التى تصدر عن الإنسان معبرة عن شعوره بالخجل مثل زم الشفتين وتفادى النظر إلى عيون الآخرين هى فى الواقع علامات تدل على احترام الآخر وتقدير لأخلاقه وتعبير عن التزام بالنظام والأخلاق العامة. «الحرج نافذة نطل منها على عقل الإنسان وتكوينه الأخلاقى».
ويكتب رولاند ميللر Miller فى كتاب نشره تحت عنوان «الحرج» ليقول إن «الحرج استجابة صحيحة ومرغوبة فى ساعات احتدام المشكلات الناجمة عن الاختلاط». وعلى كل حال يجب أن نعرف أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذى يشعر بالحرج، فالحيوانات لا تحمر وجوهها ولا تزوغ عيونها ولا تعض شفتيها.
ومع ذلك، يظل الحرج شعورا مرتبطا بالثقافة السائدة. المصرى مثلا قد يشعر بحرج إذا ارتكب خطأ لا يراه اليابانى سببا للحرج. الصينيون والهنود والمصريون يبصقون بمناسبة وبغير مناسبة، ولا يعتذرون إن فعلوا. التايلانديون نساء ورجالا مغرمون بالتدليك ويمارسونه على أرصفة القطارات ومواقف السيارات العامة ولا يعتذرون إن فعلوا. والهنود يؤدون طقوس الحج السنوى فى نهر الجانجز المقدس وهم عرايا، لا يخجلون ولا يعتذرون.
قبل أيام، شاهدت على شاشة التليفزيون مسئولا سياسيا يدافع عن تجديد قانون الطوارئ. أعرف أنه أقسم ذات يوم على أن يخدم الحقيقة والوطن والشعب، وأعرف أنه كان يعرف أن الملايين من أبناء هذا الشعب تستمع إليه، ومع ذلك لم يقل الحقيقة ولم يزم شفتيه أو تحمر وجنتاه أو ينطق باعتذار.