فى انتظار جيل أكثر حكمة - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:24 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى انتظار جيل أكثر حكمة

نشر فى : الأربعاء 19 مايو 2021 - 7:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 19 مايو 2021 - 7:10 م
هرمنا، أنا وأبناء وبنات جيلى. هرمنا فى انتظار حل يعيد الحقوق للفلسطينيين ويبعد عنا شرور الصهاينة وغزواتهم وتوسعهم بالهيمنة أو بغيرها فى جميع الأنحاء العربية. لا نعيب على الفلسطينيين انقساماتهم وهجراتهم وتخلفهم فى التنظيم والتحشيد فكلنا، رغم جهود متفرقة ونوايا متقطعة وبرامج ورؤى تنموية وإن مبعثرة، كلنا فى هذا المضمار عرب. دخلنا جولات عديدة مع الغزو الصهيونى، ممثلا فى كيانه الإسرائيلى وخطط استيطانه ومعاركه الدبلوماسية والعسكرية وحملات الاختراق المتكررة لعلاقات دولية نجحنا فى إقامتها فى أقاليم الجوار وخارجها، ممثلا أيضا فى محاولات السيطرة على مصادر معيشتنا وبعضها أفلح.
***
حققنا نجاحات فى بعض الجولات التى دخلناها مع غزوات الصهيونية، وكان الفشل نصيبنا فى أغلبها. تكاد السيناريوهات فى كل الجولات تتطابق. متى وأين تبدأ ومتى وأين تتوقف. لم يحدث إلا نادرا أن خرجت شعوب فى دول الإقليم إلى الشوارع لإظهار الدعم والتأييد للشعب ضحية العدوان الصهيونى فور وقوعه. دائما كنا نتأخر يومين أو ثلاثة وفى أحيان غير قليلة لم نتحرك إلا بعد أسبوع أو أكثر. عادة كانت شعوب أخرى، أوروبية مثلا، تسبقنا إلى التظاهر دعما للفلسطينيين أو اللبنانيين أو السوريين أو المصريين ضحايا الغزو أو التوسع. بيننا من لم يخرج. إما لأنه فى بلاده جرت العادة أن لا أحد يخرج دعما أو كرها لشىء أو لشعب أو أنه لم يخرج لأن نبأ الغزو لم يصل إليه.
***
كاد هذا السيناريو بعينه يتكرر خلال الأيام الماضية. تكرر بالفعل ما يشبهه ولكن باختلافات طفيفة. نراها بوضوح لو ابتعدنا قليلا عن الشاشة وأجرينا المقارنة بين ما كنا نفعل فى المرات السابقة وما نفعل هذه المرة. بعضنا أجرى المقارنة على صعيد آخر. أجراها بين ما فعلت أمريكا والمفوضية الأوروبية وبريطانيا فى المرات السابقة وما فعلت هذه المرة. سألنا أنفسنا إن كنا نتوقع من مجلس الأمن سلوكا مختلفا عن سلوكه فى المرات السابقة. جاءت الإجابة بالنفى طبعا ولكن بدون شعور بالإحباط وبدون غضب. لم أسأل، ولن أسأل، إن بقى فى جيلى من يتعشم خيرا فى جامعة الدول العربية إن هى بقيت. لم يبق أحد فى جيلى ينتظر منها خيرا أو يتوقع شرا. الجامعة فقدت حاسة، هى واحدة من أهم الحواس الضرورية لبقاء الأشياء والمؤسسات. تنشأ المنظمات الإقليمية، كما هو معروف، استجابة لحاجة ولتنمية حواس بعينها وأداء وظائف حيوية. الدول أعضاء الجامعة العربية لم تقدر تماما حجم المسئولية عندما تبنت قضية فلسطين، أو قدرت وأساءت التقدير. الشىء نفسه فعله قادة عرب كل على حدة أو مجتمعين. تحمسوا لحق بعيد المنال أو باطل يريح البال. نشأت الجامعة عاجزة وعاشت، معظم سنوات حياتها، عاجزة.
***
لا شىء فى عالم السياسة وبخاصة فى العلاقات الدولية يتكرر حرفيا. يسود الاعتقاد بين كثير من المتخصصين فى علاقات الشرق الأوسط وفيه إسرائيل أن الأزمة الراهنة بين الغزاة وأهل فلسطين مثلها مثل سابقاتها لن تغير فى السياسات الإقليمية قيد أنملة. لن تغير من سياسات الاستيطان، لن تغير فى طبيعة الحالة الغزية فى السياسة العربية، نسبة إلى غزة. لن تغير فى طبيعة ونمط العلاقات التى أقيمت مؤخرا بين إسرائيل ودول عربية لم يسبق لها أن جربت علاقات مع حكومة وشعب المجتمع الصهيونى فى ظل أزمة إقليمية على مستوى الأزمة الراهنة. لن تغير فى أسس العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل ولا فى العلاقة مع روسيا أو الصين.
أزعم، على العكس، أنها مع نتائجها ستكون مختلفة لأن أمورا ووقائع اختلفت. على سبيل المثال بدت الأصوات والآراء الإسرائيلية المعارضة للحكم فى إسرائيل أعنف وأكثر حدة. لعلها الكورونا وقوانين الإغلاق التى تسببت فيها أو لعلها الأزمة الاقتصادية والكساد فى سوق العمل. كلها وغيرها ساهمت فى تعدد مواقف الاحتجاج على التعامل الحكومى مع الأزمة وبخاصة مع سياسة تسخين الظروف الدافعة لنشوبها على امتداد شهر رمضان حتى احتدمت.
على سبيل المثال ثانيا، إسرائيل وجدت نفسها خلال الأيام المائة الماضية وربما أكثر قليلا فى وضع استثنائى فى علاقتها بواشنطن. عاشت القدس الإسرائيلية هذه الفترة يكاد يشلها القلق الناتج عما بدا إهمالا متعمدا من بايدن. نتنياهو فى ظروفه المتوترة مع عدالة تنتظر نهاية لمراوغات لا تبدو لها نهاية، ونتنياهو الحريص دائما على تأكيد قربه من الكونجرس الأمريكى يجد نفسه فعلا عارى النفوذ فى عراء واشنطن الجليدى خلال شهور الشتاء. كان الظن فى القدس الإسرائيلية أن الرئيس بايدن لن يجد بدا من اللجوء لنتنياهو لبث الحماسة فى جماعات الضغط الصهيونى لدعمه هو وحكومته. من ناحية أخرى كانت القدس متوجسة أكثر من مصدر للشر فى واشنطن. خرج اليسار الديمقراطى من الانتخابات عاقدا العزم على تثبيت أركانه فى بعض أركان السلطة وبخاصة فى السياسة الخارجية. لم يكن خافيا افتقار العلاقات بين يسار الديمقراطيين ويمين نتنياهو المودة المتبادلة. أظن أن نتنياهو ما كان ليترك حكومة بايدن تواصل تجاهله. حاول وردعته أوروبا عندما راح يضغط لوقف المفاوضات مع إيران وحاول مرة ثانية فى واشنطن وتصدت له قيادات يهودية. وربما يحاول الآن مرة ثالثة بتصعيد الأزمة مع الفلسطينيين ودفع بايدن إلى إعلان التزامات جديد لدعم نتنياهو.
وعلى سبيل المثال ثالثا، بالتأكيد، أو على الأقل فى غالب الظن، لم تكن واشنطن تريد أزمة فى الشرق الأوسط على هذا النمط أو فى هذا الوقت. ففى نظر أصدقاء عديدين حققت حكومة بايدن الجديدة إنجازات هامة خلال المائة يوم الأولى وما كانت تريد أن تظهر فى أزمة لم تحسب حسابها فى صورة أقل بهاء أو تبدو فى تصرفاتها مترددة. حققت بضغوط متسارعة ولكن متناسقة تحركات إيجابية فى مواقع عديدة وفى مدة وجيزة. ساد شعور بأن بايدن ومجموعته استعدا وبنجاح لإغلاق أبواب أوضاع مزعجة فى الشرق الأوسط، الإغلاق الذى يسمح لواشنطن بالخروج إلى آفاق جديدة تتناسب وطموح علاقة تنافس استراتيجى مع الصين ثم مع روسيا.
وعلى سبيل المثال رابعا، لم يكن على طاولة أى حكومة عربية مساحة تتسع لدور فى ملف نزاع من هذا النوع. كل الدول العربية كبيرها وصغيرها منشغلة هذه الأيام بقضايا بعضها يمس وجودها قولا وفعلا وأكثرها متصل بأمنها القومى ووحدة أراضيها وشعوبها. كلها بدون استثناء مهددة فى الوقت نفسه بوباء الكورونا وتوابعه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. حكومات هذه الدول وجدت نفسها فى خضم غضبة جماهيرية لم تحسب حسابها أو تتمنى وقوعها، كثيرة هى الحكومات التى اختارت التفلت من أى انغماس، وللتفلت كما للتدخل ثمن.
***
لا شك أن الأزمة الراهنة فاجأت أغلب الأطراف. لم تستعد معظم الدول المرتبطة بالأزمة ولا الأمم المتحدة أو الجامعة العربية باتخاذ إجراءات تتناسب والظروف المتغيرة فى السياسة الدولية، وإجراءات تتناسب وأحوال شعوب منهكة بالوباء أو الفساد أو سوء الإدارة. ما زلنا فى انتظار أن يسكن الغبار ودخان القنابل وأصوات الصواريخ لنتعرف معا شعوبا وحكومات على حجم ما أصابنا من خسائر أخشى أن تتراكم تداعياتها فى الأيام والشهور القادمة. نعم ما زلنا أنا وجيلى فى الانتظار لنتعرف على حجم ما جنينا على امتداد هذا الصراع من مكاسب، مكاسب أخجل لذكرها.
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي