نموٌّ للبعض من العالم.. وتهميشٌ للآخرين - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:57 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نموٌّ للبعض من العالم.. وتهميشٌ للآخرين

نشر فى : الجمعة 19 يونيو 2020 - 8:15 م | آخر تحديث : الجمعة 19 يونيو 2020 - 8:15 م

تقترح النتائج التى انتهت إليها أبحاث «منظمة التجارة العالمية»، وغيرها من منظمات اقتصادية دولية معنية، خلال (ما قبل كورونا) أن المشاركة فى «سلاسل القيمة» ــ أو سلاسل العرض والإمداد العالمية التى تشترك فيها دول متعددة فى وقت واحد ــ تؤدّى أكثر من التجارة التقليدية البسيطة بين بلدين اثنيْن، إلى التأثير إيجابا على الأداء الاقتصادى لبلد معين؛ مع الاعتراف بتباين النتائج من حالة إلى أخرى.
ومن الواضح أن البلدان ذات الدخل المرتفع، وذات «الدخل المتوسط الأعلى» هى التى تستفيد، أكثر من غيرها، من هذه المشاركة، بينما لم نجد آثارا واضحة من هذا النوع لدى البلدان ذات الدخل المنخفض وذات «الدخل المتوسط المنخفض».
إن المشاركة فى السلاسل تزيد من مستويات الإنتاجية والدخل، كما أن «التحرك لأعلى« ناحية قطاعات أكثر ممارسة للتكنولوجيا العالية، لا يحدث بصفة تلقائية وبصفة منتظمة، وقد وُجِد أنه بالنسبة للعديد من البلدان النامية التى تشارك فى سلاسل عرض عالمية رئيسية، فإن هناك تغيرا إيجابيا طفيفا فى التركيب القطاعى لهذه المشاركة. وهنا يوجد تباين شديد، حيث لوحظ وجود حالات لتحولات قطاعية ضخمة فى آسيا (وأقل من ذلك فى أوروبا) مع تحرك ملحوظ إلى الخدمات عالية التكنولوجيا فى الولايات المتحدة والصين وألمانيا واليابان.
تقترح البيانات المتاحة أيضا أن ما يسمّى «الجاذبية التجارية» Gravity (بمعنى مدى قوة انجذاب بلد معين إلى التجارة مع بلد آخر، فى حالة القرب الجغرافى مثلا) تفسر جانبا من مشاركة بلد ما فى سلاسل القيمة، بالإضافة إلى أن جودة المؤسسات، ونوعية البنية الأساسية، وتكلفة الوحدة الواحدة من العمل، هى محددات هامة للمشاركة فى السلاسل، وأن القطاعات الأعلى تطورا من الناحية التكنولوجية (كالخدمات المتطورة) تعتبر أكثر تأثرا بما قد يفرض من الحواجز التجارية، من خلال علاقة معينة للارتباط السلبى: فكلما قلت الحواجز زادت التجارة فى تلك القطاعات، والعكس.
ويعنى ذلك بالنسبة للسياسات وتوجهاتها المختلفة، أنه بغض النظر عن الدعوات المعتادة إلى توفير بنية أساسية ملائمة، و«تواصلية» أفضل Connectivity، وتحسين جودة المؤسسات، فإن هناك حاجة للبحث عن الصيغ الأكثر ملاءمة للتكامل على المستوى الإقليمى (كالتكامل العربي) من أجل معالجة أفضل لقضية تجاوز الحواجز التجارية سواء منها التعريفات أم القيود غير الجمركية.
ولكن، إن تفاقم الوضع بعد كورونا أو أثناءها، ما الحال بالنسبة لبلدان نامية مثل البلدان العربية، بما فيها مصر، حيث تضيق الخيارات أمامها، وهى ليست منخرطة أصلا فى سلاسل قوية للعرض والإمداد والقيمة المضافة على المستوى العالمي؟، وما الحال، وهى لم تنجح، عبر الزمن، فى إقامة تشكيلة متجانسة قابلة للتطور لسلاسل القيمة على مستوى إقليمى (جهوي) ــ عربى مثلا أو قلْ إفريقى على نطاق جزئى أو على نطاق كلّى قارّى..؟ كما أن هذه البلدان النامية عامة، والعربية خاصة، لم يُقدّر لها أن تنجز عملية التحول الهيكلى لاقتصاداتها بما فيها عملية «التصنيع» المبتغاة؟ فلم تزل فى أغلبها معتمدة على محصول واحد أو محصوليْن، فى إطار النشاط الأوّلى، الزراعى والنفطى، أو هى بالتعبير الذى بات دارجا: ذات اقتصادات «ريعية».
هل من مخارج محتملة للدول العربية، بما فيها جمهورية مصر العربية كمثال، فى ضوء ما يتوقع من ركود اقتصادى عالمى لفترة قادمة، فى أعقاب كورونا، تطول أو تقصر على كل حال..؟
نعم، وإننا نقترح ثلاثة مخارج ممكنة، هى ما يلى: 1ــ العمل على بناء نماذج لـ (التطور غير الرأسمالي) من خلال قاعدة إنتاجية وصناعية صلبة موجهة بالقواعد الإرشادية للاعتماد الوطنى النسبى على النفس، والعدل الاجتماعى. 2ــ العمل فى إطار مجموعة البلدان النامية لإعادة تفعيل الإطار الجامع لمنظمة التجارة العالمية ــ بالتعاون مع بلدان مثل الهند والبرازيل وإندونيسيا، من أجل حماية الإنتاج المحلى فى إطار القواعد المنظَّمة لهذه المنظمة العتيدة، وذلك فى وجه محاولات تقزيم «المنظمة الأم» كما هو معروف فى ظل النزعات الحمائية المتشددة للإدارة الأمريكية الراهنة. 3ــ الالتفاف على سلاسل العرض العالمية المهيمنة، من خلال قيادة محاولة جادة للعمل على إقامة سلاسل للعرض بين الدول العربية فى مجالات قطاعية واعدة مثل صناعة الأدوية وتجارة الخدمات. وفيما يلى نقدم محاولة ــ عملنا عليها سابقا ــ فى الاتجاه الداعى إلى بناء سلاسل القيمة المضافة العربية فى الميدان العلمى والتكنولوجى، لمقاومة التهميش المفروض فى إطار السلاسل العالمية المهيمنة حاليا، واستحثاث عملية النمو والتطور غير الرأسمالى فى بلادنا.

نحو «سلاسل عرض» على المستوى العربى الجامع
قام «صندوق النقد الدولى» بإعداد تقارير ودراسات معمقة حول سلاسل القيمة العالمية؛ ولكننا نجدها متحيزة تجاه فرضية نابعة من الاختيار الإيديولوجى القائل بأن الطريق الناجع لزيادة الدخل والإنتاجية هو الارتباط بسلاسل القيمة العالمية؛ ويرتبط بذلك تفضيل فرضية التجارة المفتوحة والاقتصاد المفتوح، لدى طواقم صندوق النقد الدولى، دونما تحبيذ لتدخل الدولة، ولو من أجل حماية الصناعة المحلية والوليدة على سبيل المثال. ولكن ربما لو أجرينا أبحاثا مستقلة لوجدنا نتائج مختلفة عن ذلك تماما. وانطلاقا من ذلك نأمل من جماعات الباحثين العرب العمل على دراسات إمبيريقة واستقصائية قوية، دون الالتزام المسبق بافتراض أفضلية السلاسل العالمية بالضرورة.
وفى هذا الاتجاه نحبذ مقتربا فكريا أقرب إلى فكرة السلاسل الإقليمية، بالتطبيق على جماعة اقتصادية عربية مبتغاة. فماذا نجد من استقراء الواقع الاقتصادى العربى الراهن بوجه عام؟.
ولنلاحظ، فى هذا المضمار، أن هناك عدة مجموعات من البلدان العربية، مصنفة بالمعيار الاقتصادى الكلى العام. هناك مجموعة من البلدان الكبيرة نسبيا من حيث المساحة وحجم السكان، بعضها منتجة للنفط والغاز تمثلها السعودية والجزائر، وبعضها غير منتجة بصفة رئيسية للنفط أو ذات موارد شحيحة نسبيا وخاصة مصر ثم العراق والسودان والمغرب؛ هذه البلدان الكبيرة جميعا تنوء بحمل الاقتصاد التقليدى، الطاقوى وغير الطاقوى، وبكمّ سكانى، وموارد مستغلة أو غير مستغلة، وباقتصاد هامشيّ خارج «التيار الرئيسى» لتوليد الناتج المحلى الإجمالى. وفى هذه الحالة، نجد أن إدخال الاستثمار الموسع للتكنولوجيا الرقمية فى قطاع المعلومات والاتصالات، على النحو القائم فى العالم الصناعى وشبه الصناعى، إن تم بصورة عفوية أو غير مخططة، يكون غير مأمون العواقب على كل حال.
إن الأمر يقتضى فى هذه الحالة نوعا من الإدخال «الانتقائى» لأدوات الثورة الرقمية ــ المعلوماتية والاتصالية بالذات ــ بهدف تسريع وتيرة التطور الصناعى، أى القيام بعملية التصنيع. بعبارة أخرى: تستهدف التكنولوجيا الرقمية هنا المساعدة فى بناء ما قبلها، أى الصناعة، ولو غير الرقمية تماما، وتطوير القاعدة الإنتاجية على وجه العموم.
غير أن هناك، فيما نرى، مجموعة أخرى من البلدان العربية لا تتمتع بمقومات كفيلة بإمكان تحقيق الثورة الصناعية، ولو أن لها سابقة عمل وتطور فى قطاعات أخرى (قطاعات خدمية كالمال والتجارة والسياحة والتعليم، أو قطاعات سلعية ممثلة فى الصناعة الخفيفة)؛ وهى يمكن لها أن تعمل بأمان أكثر من أجل تبنّى شطر من آليات الثورة الرقمية دون أن تخشى الكثير.
تلك هى حالة لبنان والأردن، وحالة تونس، والبحرين وعمان ــ باستثناء «دولة الإمارات العربية المتحدة»، وخاصة إمارة دبى التى حققت فيما يبدو ولوجا آمنا بالفعل إلى بشائر العصر الرقمى العالمى، كمشروع (مدينة عالمية) (غير عربية) بالذات على كل حال.
خمس أو ست بلدان عربية إذن مؤهلة لبدء عملية الإدخال الآمن للثورة الرقمية، دون مضاعفات متوقعة كثيرة، إن هى أحسنت وضع الأولويات لها، وبرمجت التطور الرقمى على مدى الزمن بصورة واقعية ودقيقة.
مجموعة ثالثة من البلدان العربية الأقل نموا (مثل موريتانيا) والأكثر فقرا، أو ذات الظروف الخاصة وشحيحة الموارد (مثل جيبوتي)، أو التى تعانى من التمزق الداخلى، مثل الصومال أو اليمن بصفة انتقالية حاليا ــ وهذه كلها ينبغى أن يشملها العون العربى والخارجى لانتشالها من الظروف المعيقة.
تلك إذن ثلاث مجموعات للبلدان العربية من وجهة نظر التطور التكنولوجى الدولى المتسارع: فى الطرف الأول، مجموعة من الدول الكبيرة؛ وهى لا بد أن تبنى «استراتيجيات» انتقائية للتكنولوجيا الرقمية، تشمل السعودية ومصر والسودان والجزائر والمغرب. ومجموعة فى المنتصف، وهى ما تسمى بالبلدان الأقل نموا، وذات الظروف الخاصة. وفى الطرف المقابل للمجموعة الأولى، ثمة مجموعة من البلدان الصغيرة نسبيا، يمكن أن تسمح ظروفها بتهيئة المجال الاقتصادى للتطوير التكنولوجى الرقمى بآفاقه العالمية. هذه المجموعات الثلاث، نقترح أن يكون لها إطار للعمل المشترك، فى نوع من «سلسلة إقليمية للعرض» أو «سلسلة القيمة المضافة الإقليمية» بفعل تشابه الظروف بدرجة معينة داخل كل مجموعة، وبين المجموعات الثلاث ككل. فهل نعتبر..؟

ختام

إلى أيّ حدّ يكون هذا البديل الأخير المطروح ممكنا..؟ يتوقف ذلك على جانبين: أولهما مستوى ونوعية التطور الاقتصادى والاجتماعى والسياسى فى البلدان العربية، أو فى بعض منها، بما يسمح بإنضاج الظروف الموضوعية والذاتية الضرورية لإقامة وإنجاح نموذج للتطور غير الرأسمالى، يقوم على تشكيلة طبقية متجانسة فى السياق الوطنى التقدمى، عاملة على بناء القاعدة التصنيعية فى إطار العدل الاجتماعى والاستقلالية النسبية على الصعيد الخارجى. ويتطلب ذلك ممارسة دور فاعل ووظيفة تنموية للدولة الوطنية فى إطار من توزيع الأدوار بين القطاع العام والقطاع الخاص «غير المستغل»، والقطاع التعاونى و«قطاع الإنتاج السلعى والخدمى الصغير والمتوسط».
أما الجانب الثانى فيتعلق بالبدائل الممكنة للتطور الاقتصادى والاجتماعى والسياسى فى الولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد، وانعكاسه على الدور الخارجى لهذه الدولة. علما بأن هذا الدور سوف يتعرض لتنازع بين تصورات عديدة لدور الدولة الأمريكية فى العالم المتغير، وخاصة بين اتجاهين: اتجاه (انكفائى) ربما يعيد التركيز على التقاليد المرتبطة بالإمبراطورية البحرية، مع فناء خلفى فى الجنوب، وقوة عسكرية تكفل حماية المصالح الاقتصادية فى الكون الفسيح. واتجاه آخر مغاير يواصل الاعتماد على تشديد تحكم (المركب الصناعى ــ العسكري) بواسطة «البنتاجون» والشركات الكبرى، ويراوح دائما بين دورة زمنية للتهدئة النسبية على الصعيد الخارجى، ودورة أخرى للعنف الموسع والحرب.
ونحن نظن أن الاتجاه الثانى هو الأغلب، بعد أن (تذهب السَّكْرة وتجيء الفكرة)..
ولننتظر التاريخ ليقول كلمته بعد حين، بمَكْرِه وكرِّه وفرِّه.
لربما لن نُضطرّ إلى الانتظار كثيرا على كل حال...!

محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات