فى البدء كانت المِدحة لاسترضاء الخديوى عباس حلمى الثانى، الذى اتخذه شاعره وصديقه، علاوة على التماس العذر منه جراء التفلت من مصاحبته فى رحلته لأداء فريضة الحج عام 1910. فبعنوان «إلى عرفات الله»، وفى 42 بيتا، نظم أمير الشعراء، أحمد شوقى، قصيدة عصماء يشيد فيها بورع الخديوى ويعدد مناقبه، فى ثنايا وصفه لمشهد قيادته قافلة الحجيج لأداء شعائر الحج، بينما تحفهم ظلل الغبطة الغامرة، فيما تتضرع قلوب ملايين المسلمين إلى ربها بالدعاء كى يكتب لهم حج بيته العتيق وزيارة قبر نبيه العدنان عليه صلاة الله وسلامه.
غير أن القصيدة، التى كانت تبتغى، فى الأصل، امتصاص غضب الخديوى على ناظمها، قد ألهبت مشاعر جموع المسلمين، التواقة أفئدتهم إلى زيارة المشاعر المقدسة، مثلما استنفرت مواهب وحماسة كبار المبدعين وقتئذ. وفى عام 1965، قررت كوكب الشرق أم كلثوم، أن تختتم عشريتها الغنائية من قصائد ديوان الشوقيات التى شدت بها، من ألحان الموسيقار العبقرى، رياض السنباطى، بعدما استهلتها عام 1936، أى بعد أربع سنوات من رحيل شوقى، بقصيدة «عيد الدهر» التى غنتها بمناسبة جلوس الملك فاروق على عرش مصر، ومن بعدها «سلوا كئوس الطلا»، و«سلوا قلبى» عام 1946، ثم «ولد الهدى»، و«نهج البردة»، و«فى الأرض شر مقاديره»، و«النيل»، و«السودان»، و«تكريم».
وفى سياق مواءمتها مع التعبير الفنى عن مناسبة دينية عظيمة بمنزلة الحج، أدخلت سيدة الغناء العربى، على رائعة «إلى عرفات الله»، بعض التعديلات الكفيلة بتحريرها من السمت الشخصى السلطوى، الذى طغى عليها، كونها نُظمت، أساسا، ابتغاءً لمرضاة الخديوى عباس حلمى الثانى. حيث قامت باستبعاد عشرين بيتا من أبياتها الإثنين والأربعين، وأعادت صوغ بعض مفرداتها، ليتجلى توصيفها البليغ والمسهب عن المشاعر المواكبة لأداء مناسك الحج، من منظور دينى لا يخلو من مقاربة وطنية. واستكمالا لعملية هيكلة منظومتها الفنية الساحرة، عهدت كوكب الشرق إلى المخرج الموهوب أحمد بدرخان، بإخراج القصيدة المغناة للتليفزيون فى تصوير سينمائى بديع، قبل أن توافيه المنية فى العام 1969.
تمضى الأيام، وتتعاقب السنون، على رحيل مبدعى تلك اللوحة الفنية الخالدة، بينما تتوالى تترى الأعمال الفنية المتميزة عن الحج ومناسكه، على شاكلة أغرودة ليلى مراد الشهيرة «يا رايحين للنبى الغالى»، التى شدت بها فى فيلم «ليلى بنت الأكابر»، عام 1953، من تأليف أبوالسعود الإبيارى، ولحن رياض السنباطى أيضا. بيد أن السبيكة الشعرية الغنائية الموسيقية السينمائية الفريدة «إلى عرفات الله»، تبقى، حسب إجماع النقاد الفنيين ومتذوقى الطرب الأصيل، متصدرة قائمة أفضل منتج فنى يعبر عن حالة الشوق الجارفة التى كانت تعترى صناعه، كما لا تفتأ تتملك عموم المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها، لأداء فريضة الحج وزيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
منذ إرهاصاتها الأولى، تنطوى شعيرة الحج على طيف فسيح من المعجزات الإلهية، التى تستوقف كل ذى بصيرة، فيما لا تتسع تلك الأسطر المعدودات للطواف حولها. لكنى أتوقف ههنا عند حادثة إخبار البشر المبعثرين فى ربوع المعمورة، بإتمام خليل الله إبراهيم وولده اسماعيل بناء البيت الحرام، ودعوتهم لزيارته، ثم تلبية الكثيرين للنداء والتهافت للحج إليه. ففى سورة الحج، يقول المولى، جلَ فى علاه، مخاطبا نبيه إبراهيم عليه السلام: «وأَذِن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ». وفى تفسير تلك الآية الكريمة، يقول الإمام ابن كثير: فلتنادى يا إبراهيم فى الناس، داعيا إياهم إلى حج هذا البيت، الذى أمرناك وابنك اسماعيل برفع قواعده واستكمال بنائه، وسيأتيك الحجيج أفواجا وزرافات من كل مسلك ممتد بعيد.
وقد ذكر بن كثير أن أبانا إبراهيم سأل ربه متعجبا: كيف أُؤذِن فى جموع البشر المنتشرين فى أصقاع الأرض وأُسمعهم صوتى المتواضع الذى لا يدرك معاقلهم؟! فقيل له: عليك النداء وعلينا البلاغ. فقام خليل الرحمن على مقامه، وقيل: على الحجر، الذى استعان بالوقوف عليه لتعلية بنيان البيت الحرام، وقيل: على الصفا، وقيل: على جبل أبى قبيس. ونادى بأعلى صوته: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتا فى الأرض فحجوه. ويقال فى ذلك: إن الجبال تواضعت مفسحة المجال لنداء الخليل ليطوف أرجاء المعمورة، ويسمع من فى الأرحام والأصلاب من البشر، حتى أجابه كل شىء سمعه من حجر ومدر وشجر وبشر، ممن قدر له الله أن يحج بيته، من وقتها حتى قيام الساعة، ملبين جميعا «لبيك اللهم لبيك».
ومن حكمة المولى عز وجل، أن هدى سيدنا إبراهيم فى دعائه، بعدما أسكن زوجته هاجر وولده اسماعيل الموضع الذى سيأمره لاحقا برفع قواعد البيت الحرام فى ربوعه، إلى أن يلتمس من الحق تبارك وتعالى، توفيق جماعات من الناس إلى زيارة بيته، وليس عموم البشر. حيث أورد الواحد الأحد، على لسان خليله فى السورة القرآنية، التى تحمل اسمه: «ربَّنَا إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ». وهنالك، يرى الإمام الطبرى، أن من رحمة الله بعباده، أن ألهم نبيه إبراهيم الدعاء بأن يجعل قلوب بعض خلقه تنزع إلى زيارة بيته الحرام. فلو قال إبراهيم: أفئدة الناس تهوى إليهم، دونما ذكر «مِن» التبعيضية، لانهمرت السيول البشرية إلى البيت الحرام كالطوفان الجارف، بمن فيهم اليهود والنصارى والترك والروم والفرس المجوس وغيرهم من غير المسلمين. ولكنه قال: أفئدة من الناس، ليقتصر الأمر على من يوفقه الله للحج من المسلمين، دون سواهم.
علاوة على ما يحمله فى طياته من دلالات على وحدة المسلمين فى مختلف بقاع الكوكب، يتجلى التناظر اللافت ما بين شعائر الحج وأحوال يوم الحشر الأعظم. ففى مشهد عرفة، يجتمع المسلمون من كل حدب وصوب، وبرغم اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأنسابهم ومشاربهم، يقفون على صعيد واحد، يلهجون بنفس الكلمات من الذكر والشكر والتسبيح والدعاء للبارئ، تقدست أسماؤه، مرتدين لباسا بدائيا موحدا، أشبه بأكفان الموتى. ولو أن اعتبارات الزمان والمكان تتسع لما يفوق الملايين الأربعة التى تلتئم كل عام، لغمرت جحافل الحجيج بلاد الحرمين الشريفين حتى فاضت بقاصديها.
وفى بلاغة قرآنية ساحرة، يبين لنا الخالق، تجلت حكمته، فى سورة «الحج»، ملامح التلاقى بين موسم الحج ومشاهد يوم القيامة. فبعدما افتتحت السورة الكريمة باستعراض لبعض أهوال اليوم المشهود بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ«، ثم لاحقا بقوله تعالى: «وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ«، عرجت إلى قصة بناء البيت الحرام، وأذان الخليل إبراهيم فى الناس بالحج، وشرح المناسك والشعائر، وما يتعين على الحجيج الاضطلاع به من أذكار وطقوس فى هكذا مضمار.
وبترجله بين المشاعر المقدسة لإتمام المناسك وسط ملايين الحجيج من التروية بمنى إلى صعيد عرفات، ثم النفر إلى مزدلفة، فرمى الجمرات الثلاث فى العقبة، والطواف بالبيت الحرام، وذبح الهدى، والحلق فى يوم النحر، ثم المبيت بمنى مجددا قبل طواف الوداع، يستحضر المسلم تبدل المنازل يوم القيامة بين المواضع والأحوال؛ فمن بعث القبور، ثُم النشور، ثُم الحشر، ثُم الحساب، الذى يتضمن بدوره تطاير الصُحف والكُتب ونصب الميزان، ثم ورود الحوض، فالمرور على الصراط، وبلوغ قنطرة المظالم، وصولا إلى دخول أهل الجنة الجنة، وولوج أهل النار النار.
ولكم يتشابه فرح الحجيج بإتمامهم لمناسك الحج، وتوسلهم القبول والأجر العظيم من الخالق الكريم، الذى يلهجون بالثناء عليه أن وفقهم لأداء ركن الإسلام الخامس، توطئة لتطهيرهم من الذنوب والخطايا، مع حبور أهل الجنة بعد تجاوزهم الحساب، واجتيازهم الصراط؛ وزحزحتهم عن النار. فببلوغ الجنة، يتأتى الفوز المبين، حيث الراحة التى لا تنقطع، والنعيم الذى لا ينفد. وقد سٌئِل الإمام أحمد رحمه الله: متى يدرك المرء الراحة الحقيقية؟! فأجاب: عند أول قدم يضعها فى الجنة. فاللهم اكتب لنا أجمعين حجة مبرورة، تبلغنا بها سعادتك الأبدية فى فسيح جناتك. فأنت ولى ذلك والقادر عليه.