نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب نجيب صعب بتاريخ 17 يوليو تناول فيه تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على الالتزام بنصوص الاتفاقيات المناخية لما خلفته من أزمات اقتصادية تجتاح العالم.. نعرض من المقال ما يلى.
كشفت الحرب فى أوكرانيا حساسية الاتفاقيات المناخية للحروب، والتطورات الجيو ــ سياسية الكبرى، خصوصا إذا ضربت إمدادات الغذاء والطاقة، وأدخلت الاقتصاد العالمى فى حالة ركود. فمهما حاول بعضهم المكابرة، لا يمكن إنكار أن تحقيق الالتزامات المناخية سيتأثر فى السنوات المقبلة بنتائج هذه الحرب الضروس وسط أوروبا، التى هى فى المحصلة صراع على المصالح والثروات الطبيعية والنفوذ. لكن صدمة أوكرانيا قد تقرع جرس الإنذار لإدخال تعديلات جوهرية فى سياسات الأمن الغذائى والطاقة على مستوى العالم، لتجنب هزات مماثلة فى المستقبل. ويبدو أن صناع السياسات اكتشفوا أخيرا أن أمن الغذاء والطاقة لا يُختصر فى زيادة الإمدادات، بل يتعداه إلى ترشيد الاستهلاك وتعزيز الكفاءة وتشجيع الإنتاج المحلى.
هذه الأجواء انعكست على الاجتماعات الدولية الأخيرة لمتابعة تنفيذ مقررات قمة جلاسكو المناخية، والاستعداد لقمة شرم الشيخ فى نوفمبر المقبل. فقد عقدت الدول الأعضاء فى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغيُر المناخ اجتماعها السنوى فى بون، لمراجعة الالتزامات بخفض الانبعاثات. وفى حين أعرب الجميع عن نيات حسنة نتيجة لاتفاق شامل على فداحة المشكلة، اشتد الخلاف حول التمويل. وتبين أن مبلغ المائة مليار دولار التى وعدت الدول الغنية منذ زمن طويل بتأمينه سنويا، كمساعدة أولية مناخية للدول الفقيرة، لم يكتمل بعد. أما العقدة الكبرى المستمرة، فكانت الاتفاق على صندوق تموله الدول الصناعية الغنية للتعويض عن الخسائر والأضرار الناجمة عن دورها التاريخى فى التغيُر المناخى.
منذ انطلق الحديث عن المناخ فى المحافل الدولية، بينت الدراسات أن معظم الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحرارى جاءت من الدول الغربية الكبرى، ابتداء من عصر الثورة الصناعية. لكن الضرر الأكبر من تغيُر المناخ يقع على الدول الفقيرة، بسبب طبيعتها من جهة، وعدم قدرتها على المواجهة المطلوبة بالمال والتكنولوجيا من جهة أخرى. لذا لم تتوقف الدول النامية عن مطالبة الدول الصناعية بتعويضات عن الأضرار التى أحدثتها فى بيئة العالم خلال 200 سنة. وإذا كان المبدأ موضع تفهُم، فإن الاتفاق على آلية لتطبيقه بقى عصيا. فمجرد القبول بدفع أى تعويضات تعود للمسئولية التاريخية عن الانبعاثات يفتح الباب أمام مطالبات قد لا تنتهى خلال عشرات السنين.
• • •
فى مؤتمر جلاسكو المناخى، أصرت الدول النامية على إنشاء صندوق للتعويض عن المسئولية التاريخية، إلى جانب صندوق المساعدات المناخية الذى لا يزال هو نفسه يعانى عجزا فى التمويل. وقد رضيت الدول النامية بتسوية قامت على قبولها بتخفيض الانبعاثات الكربونية وفق مقررات جلاسكو، مقابل وعد من الدول الغنية بدراسة موضوع إنشاء صندوق للتعويضات عن الأضرار والخسائر، وطرحه على مؤتمر «كوب 27» فى شرم الشيخ. لكن اجتماع بون فشل فى التوصل إلى اتفاق على اقتراح بشأن الصندوق، وترك الأمر لقمة شرم الشيخ.
ولا بد من أن مضاعفات حرب أوكرانيا ألقت بظلالها السوداء على اجتماع بون. فكيف لدول تعانى اقتصاداتها أكبر انكماش خلال عقود أن تلتزم بتعويضات قد تصل إلى تريليونات الدولارات خلال 50 أو 100 سنة، بعدما كانت قد تجنبت هذا فى سنوات الازدهار والبحبوحة؟
ما إن انتهت اجتماعات بون المناخية حتى عقد الرئيس الأمريكى جو بايدن «منتدى الاقتصادات الكبرى حول الطاقة والمناخ»، بمشاركة دولية رفيعة المستوى. حرب أوكرانيا وتأثيرها على إمدادات الطاقة والغذاء حضرت بقوة فى النقاشات. لكن المنتدى نجح، رغم ذلك، فى إعطاء دفعة إيجابية على الطريق إلى شرم الشيخ. فالرئيس الأمريكى جدد التزامه بتعهدات جلاسكو فى مجال خفض الانبعاثات الكربونية؛ لكنه أضاف إليها أهدافا محددة. فقد وعد بتسريع تطبيقات التقاط الكربون وتدويره أو تخزينه، وإدخال الهيدروجين النظيف خلال سنوات قليلة كعامل أساسى فى مزيج الطاقة، وإصدار نصف السيارات الجديدة المبيعة فى الولايات المتحدة سنة 2030 «صفر انبعاثات»، مما يعنى اعتماد سيارات تعمل بالكهرباء أو الهيدروجين. وفى كلامه عن المخاطر على الأمن الغذائى من النقص فى الأسمدة بسبب حرب أوكرانيا، شدد على الترشيد ووقف الهدر، وأشار إلى خسارة نصف كمية الأسمدة المصنوعة من النيتروجين بسبب الممارسات الزراعية غير الكفؤة، وهذا أكثر مما يحتاجه العالم لسد العجز الحالى فى الأسمدة.
فى الإطار نفسه، نبه بايدن إلى أن كمية غاز الميثان الناجمة عن صناعات الطاقة التقليدية الأمريكية، من غاز طبيعى ونفط وفحم، والتى يتم التخلُص منها بالإشعال فى الأجواء المفتوحة، كافية، إذا تم التقاطها وتحويلها إلى هيدروجين، لتوفير بديل نظيف يسد كل حاجات أوروبا من الغاز الروسى. وهذا، فى رأى بايدن، يحل مشكلة الانبعاثات الناجمة عن حرق الميثان، كما يسهم فى حل مشكلة الطاقة فى أوروبا.
رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين تعهدت فى المنتدى العالمى بما لا يقل عن وعود الرئيس الأمريكى. فهى حددت سنة 2035 لوقف بيع أى سيارات جديدة تصدر عنها انبعاثات كربونية، وتخصيص نحو 300 مليار يورو حتى سنة 2027 لدعم التكنولوجيات النظيفة، وتقديم برنامج عملى إلى قمة شرم الشيخ لتخفيض جدى للانبعاثات فى قطاع النقل البحرى، وتخصيص 600 مليار دولار لدعم الأمن الغذائى فى البلدان الأكثر تأثرا بتغيُر المناخ.
وحضرت المنطقة العربية بقوة فى المنتدى العالمى، بمشاركة لافتة للمبعوث السعودى لشئون المناخ، الوزير عادل الجبير الذى دعا إلى استجابة دولية فاعلة، وحشد الجهود لمواجهة تحديات التغيُر المناخى، مع أخذ ظروف الدول النامية فى الاعتبار، ومساعدتها فى مواجهة الآثار السلبية، من دون إعاقة برامجها للتنمية المستدامة. واكتسب كلام الجبير قوة استثنائية؛ لأنه دعمه بعرض لما تقوم به السعودية من مشاريع وإجراءات لتحقيق الأهداف المناخية العالمية. وعكس مستوى التمثيل والكلام القوى المباشر قرارا سعوديا واضحا بأخذ زمام المبادرة فى القضايا المناخية، بدلا من الاكتفاء بردود الفعل على مبادرات الآخرين.
• • •
إنها وعود نبيلة وجميلة. لكن علينا الانتظار لنعرف ــ وسط أزمة اقتصادية تجتاح العالم ــ ما إذا كانت برامج بايدن ستعبر فى الكونجرس، ووعود فون دير لاين ستجتاز عتبات الاتحاد الأوروبى. لكن هناك من يرى أن الأزمة التى فجرتها حرب أوكرانيا قد تفتح الطريق لتسريع الخطوات لعمل مناخى يقوم على الإنتاج النظيف، وتعزيز الكفاءة، ووقف الهدر.