بغير ثمن، لن يتسنى للبشرية استنقاذ كوكبها الأزرق من هلاك محقق. فبزهاء 15.5 تريليون دولار، قدرت وكالة الطاقة الدولية، كلفة التحول نحو الطاقة المتجددة بحلول العام 2030. ضمن سياق تطبيق بنود، اتفاق باريس للمناخ عام 2015، والمنوط به مكافحة التغيرات المناخية، والحد من ظاهرة الاحتباس الحرارى، إلى ما دون +2 درجة مئوية، مقارنة بـ +1,5 درجة مئوية، إبان حقبة ما قبل الثورة الصناعية.
رغم أنها لا تنتج سوى 17% من الانبعاثات المسببة للاحترار العالمى، تأتى الدول النامية فى طليعة المتضررين منه، إذ تتصدر الخطوط الأمامية لمجابهة آثاره. وخلال قمة «جلاسكو»، العام الماضى، ناضل فقراء العالم لاستجلاب دعم مالى يخفف من وطأة معاناتهم. ونجحت جهودهم فى إقناع المانحين بمساعدة الدول الأشد فقرا والأكثر عرضة للأخطار، عساها تحقق التنمية بوسائل نظيفة، وتتصدى للتقلبات المناخية والكوارث البيئية. لكن التقارير الدولية تؤكد أن الدول الفقيرة لم تتلقَ سوى مائة مليار دولار، تمثل 3% فقط من الاعتمادات المالية اللازمة لمواجهة التغيرات المناخية. وهو ما يكرس عجزها عن مواجهة التداعيات الاقتصادية المترتبة على تلك التغيرات، فى ظل افتقارها للإمكانات، وعوزها لأولويات التمويل البيئى. وبذلك، يشكل عدم التزام البلدان الغنية بمساعدة الدول النامية فى تحمل كلفة تقليص الانبعاثات الغازية، والتعامل مع تداعيات الكوارث البيئية، تحديا أمام تفعيل مقررات اتفاق باريس.
وخلال الاجتماع التحضيرى حول تغير المناخ، الذى استضافته القاهرة هذا الشهر، دعا ممثلو الدول الأفريقية، وفود الدول المتقدمة، والمنظمات المالية الدولية، وبنوك التنمية المتعددة الأطراف، إلى الوفاء بتعهداتهم المالية لمساعدة القارة السمراء على التكيف مع تغير المناخ والتحول الأخضر، عبر خفض أعباء «الاقتراض الأخضر». خصوصا مع انخفاض البصمة الكربونية للدول الأفريقية قاطبة إلى ما دون 4%. فى الوقت الذى تشكل «غابات حوض الكونغو»، جنبا إلى جنب، مع غابات الأمازون، الرئة الخضراء الرئيسة للكوكب عبر التقاط الكربون. ويحرص مؤتمر «كوب 27»،على إيصال صوت الزعماء الأفارقة، لحشد الدعم الدولى من أجل التعافى البيئى الأفريقى، وتمهيد الطريق لـ«يوم التمويل»، الذى سينظمه وزير المال المصرى على هامش المؤتمر.
وفى ثنايا كلمته «بمنتدى مصر للتعاون الدولى والتمويل الإنمائى»، مطلع هذا الشهر، حذر الرئيس عبدالفتاح السيسى، من أن يتسبب نقص التمويل فى إعاقة جهود التكيف مع أصداء تغير المناخ، والتى تتخطى كلفتها 800 مليار دولار سنويا حتى عام 2025. ولما كانت دول مجموعة العشرين مسئولة عن نحو 80% من الانبعاثات الغازية الضارة، طالبها السيسى ببلورة آليات تمويلية مبتكرة للدول النامية. كمثل مبادلة الديون بالاستثمار فى المناخ، عبر ستة مجالات حيوية، تتجلى فى؛ انتقال عادل للطاقة النظيفة، الأمن الغذائى، سوق الكربون، التحولات الرقمية، الاقتصاد الأزرق، والمياه، والمدن. ومرارا، أكدت القاهرة أن مؤتمر الدول الأطراف فى اتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ «كوب 27»، الذى ستستضيفه مدينة شرم الشيخ خلال الفترة من 7 إلى 18 نوفمبر المقبل، سيعطى أولوية كبرى لملف تمويل العمل المناخى فى أفريقيا والاقتصادات الناشئة. سواء عن طريق مناقشة آليات التمويل المبتكر، أو عبر التعامل مع المشكلات التى تعوق الاستثمار فى العمل المناخى. وفى مسعى منه لتوفير سبل التمويل لمختلف الخطط والتدابير الكفيلة بالتكيف مع آثار التغيرات المناخية، سيشدد المؤتمر على ضرورة التزام الدول الصناعية الكبرى بتعهداتها الدولية السابقة، بهذا الخصوص.
فى ذات السياق، لفت الدكتور محمود محيى الدين، رائد المناخ للرئاسة المصرية للمؤتمر، إلى أهمية السندات الخضراء والزرقاء كوسيلة فعالة لتمويل العمل المناخى وإنجاح استراتيجية التحول الأخضر. شريطة مراعاة مبدأ الشفافية، والجمع بين التمويل العام والخاص. وتوزيعهما بصورة عادلة على إجراءات التخفيف من الانبعاثات والتكيف مع الآثار السلبية لظاهرة تغير المناخ. مع ضرورة الوفاء بتعهدات مبادرة المنتديات الإقليمية الخمسة الكبرى لتمويل المناخ، بالتعاون مع اللجان الإقليمية للأمم المتحدة، ومؤتمر الأطراف فى كوبنهاجن. كما شدد على أهمية ربط الموازنات العامة للدول بالعمل التنموى والمناخى، كون التقاعس عن الاستثمار فى العمل المناخى، يقوض النمو الاقتصادى.
لكم كان مؤسفا، أن تناهض دول الشمال الغنية نداءات ملحة لإنشاء صندوق لمساعدة الدول الفقيرة فى التعامل مع أوجاع الكوارث المناخية، وتعويضها عن الأضرار التى تصيبها. وربما يرجع هذا الرفض إلى خشية الدول الأشد تلويثا لبيئتنا، من أن تُفَسر استجابتها لتلك النداءات، على أنها اعتراف بمسئوليتها عن كوارث مناخية، كان أحدثها الفيضانات، التى اعتبرها الأمين العام للأمم المتحدة «مجزرة مناخية»، بعدما قتلت 1400 شخص، ودمرت حياة 33 مليونا آخرين فى باكستان. ورغم أن إسهامها فى الانبعاثات الغازية الدفيئة، لا يبلغ 1%، إلا أنها تعد الثامنة ضمن قائمة وضعتها منظمة «جيرمان ووتش» غير الحكومية، للدول الأكثر عرضة لمخاطر الظواهر المناخية القصوى، الناجمة عن التغير المناخى. فيما تحتاج اليوم لزهاء ثلاثين مليار دولار، لمعالجة آثاره المأساوية.
من سوء الطالع، أن تفضى حرب الطاقة المشتعلة بين روسيا والغرب، إلى تعثر الاستراتيجيات الأوروبية الرامية إلى التوسع فى إنتاج الطاقة المتجددة، والتحول إلى الاقتصاد الأخضر. فمن جهة، تمخضت عن عودة الكثير من الدول إلى الاعتماد المكثف على الوقود الأحفورى والمفاعلات النووية لتوليد الطاقة. ومن جهة أخرى، أعاقت التزام الدول بتنفيذ تعهداتها المالية والتقنية، المتوافق عليها خلال الاتفاقيات، والبرتوكولات، والمواثيق، التى تم إقرارها خلال مؤتمرات المناخ الدولية المتعاقبة.
تصطدم سياسات تحول الطاقة، بتضرر الدول، التى يعتمد اقتصادها على عوائد صادرات الوقود الأحفورى، من مشاريع إنتاج مصادر طاقة متجددة ومستدامة. ومن جانبهم، أكد منتجو الوقود الأحفورى أنه لا يمكن للعالم أن ينفصل، فجأة وببساطة، عن المواد الهيدروكربونية. سيما، أنه يحصل على 80% من طاقته عبر الغاز، والنفط، والفحم، التى ستظل ركنا ركينا، من مزيج الطاقة المستقبلى، إلى جانب الطاقة النظيفة. ولفتوا إلى أن صناعة النفط والغاز تحتاج إلى استثمار أكثر من 600 مليار دولار سنويا حتى عام 2030، لتلبية الطلب العالمى المتوقع. وشددوا على ضرورة مراعاة الجهود المبذولة لمكافحة تغير المناخ، مع تحقيق التوازن بين أمن الطاقة العالمى، والتنمية الاقتصادية فى الدول النامية.
ما كادت قمة «جلاسكو» تحقق اختراقا لجهة وقف استخدام الوقود الأحفورى، باعتباره المتسبب الرئيس فى ظاهرة الاحتباس الحرارى. حتى هرعت الهند والصين إلى تعديل صياغة البيان الختامى للمؤتمر، باعتماد لفظ «تقليص» استخدام ذلك الوقود، «بدلا من «التخلى» عنه. وكانت دول منظمة «أوبك» قد دافعت باستماتة، خلال القمة، عن أهمية الوقود الأحفورى. مجادلة بأن العالم بإمكانه التقليل من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحرارى، من دون استبعاده نهائيا، كونه يحرم الدول الفقيرة منها. كما أن استخدام تكنولوجيا احتجاز الكربون، عبر التقاط الانبعاثات وتخزينها تحت الأرض، يمكن أن يسمح للاقتصادات بمواصلة حرق المواد الهيدروكربونية، بدلا من إقصاء الوقود الأحفورى. بيد أن نشطاء المناخ يرون أن تلك تقنيات، التى لم يتم التأكد بعد من نجاعة تنفيذها على نطاق واسع، تبقى باهظة التكلفة، وتتيح إصدار المزيد من الغازات الدفيئة، اعتقادا بإمكانية إبعادها عن الغلاف الجوى لاحقا. كما لا توفر سوى غطاء لاستمرار الصناعات، كثيفة التلوث. وأخيرا، كشفت دراسة لمجلة «نيتشر» العلمية المرموقة، عن أن استراتيجيات إزالة الكربون، التى اعتمدتها شركات النفط والغاز العملاقة، لا تلبى غايات اتفاق باريس.
لا يزال عالمنا فى مسيس الاحتياج إلى اقتصاد أكثر كفاءة واستدامة، مناخيا وبيئيا. بما يتيح ملء الفجوة بين المناخ والأنظمة الحضرية والسياسية. كما يكفل التناغم بين الطموحات التنموية والأمن المناخى. مع دعم مساعى الدول النامية للحاق بركب الاقتصاد الأخضر. ههنا، تبرز أهمية الاقتصاد الدائرى، باعتباره حلقة مغلقة، تتضمن تقليل انبعاثات الكربون، وإعادة تدويره، ثم استخدامه، توطئة لإزالته. الأمر الذى من شأنه تقليص الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحرارى، وسد ثغرات التنمية، واستعادة توازن وحيوية الأنظمة البيئية.